تفسير سورة النساء الاية 63

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم

تفسير اليوم اية 63

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا

ملخص الاية:
–قال تعالى: { أولئك الذين يعلم اللّه ما في قلوبهم} هذا الضرب من الناس هم المنافقون والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قال له: { فأعرض عنهم} أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم، { وعظهم} أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، { وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم  

تتحدث الاية عن:

1-وناهيك بعلم الله عز وجل، ولذلك يقول ربنا:
{  وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } [محمد: 30].
يعني: نحن لو شئنا أن نقول لك من هم لقلنا لك ودللناك عليهم حتى تعرفهم بأعيانهم، ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم لعلهم يتوبون، ولتعرفنهم من فحوى كلامهم وأسلوبهم.

2-{ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } لقد ذهبوا ليتحاكموا إلى الطاغوت، وقد ذهبوا إلى هناك لعلمهم أنهم ليسوا على حق، ولأنهم إن ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم فسيحكم بالحق، والحق يضارُّهم ويُضايقهم، فهل كانوا بالفعل يريدون إحساناً وتوفيقاً، أو كانوا لا يريدون الحق؟. لقد أرادوا الحكم المزور.

3-لذلك يأتي الأمر من الحق لرسوله: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }؛ لأنك إن عاقبتهم فقد أخذت منهم حقك، والله يريد أن يبقي حقك ليقتص – سبحانه – لك منهم، وأعرض أيضاً عنهم لأننا نريد أن يُظهر منهم في كل فترة شيئاً لنعلم المجتمع الإيماني اليقظة إلى أن هناك أناساً مدسوسين بينهم، لذلك لا بد من الحذر والتدبر. كما أنك إذا أعرضت عنهم أسقطتهم من حساب دعوتك.

4-” وعظهم ” أي قل لهم: استحوا من أفعالكم. { وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أي قل لهم قولاً يبلغ الغاية من النفس البشرية ويبلغ الغاية من الوعظ، أي يوعدهم الوعيد الذي يخيفهم كي يبلغ من أنفسهم مبلغاً، أو { وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أي أفضح لهم ما يسترون؛ كي يعرفوا أن الله عز وجل مطلعك على ما في أنفسهم فيستحوا من فعلهم ولا يفعلوه، قل لهم ذلك بدون أن تفضحهم أمام الناس؛ لأن عدم فضحهم أمام الناس يجعل فيهم شيئا من الحياء، وأيضاً لأن العظة تكون ذات أثر طيب إذا كان الواعظ في خلوة مع الموعوظ فيناجيه ولا يفضحه، ففضح الموعوظ أمام الناس ربما أثار فيه غريزة العناد، لكن عندما تعظه في السرّ يعرف أنك لا تزال به رحيماً، ولا تزال تعامله بالرفق والحسنى.

5-{ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ } وإنك لو فعلت ذلك علناً فستعطي الأسوة لغيرك أن يفعل. والله قد أطلعك على ما في قلوب هؤلاء من الكفر أما غيرك فلا يطلعه الله على غيب ولو رمى أحداً بذنب أو كفر فلعله لا يصادف الحق والواقع وتشريعنا يقول لنا: ” ادرأوا الحدود بالشبهات “.والتطبيق لهذا التشريع نجده عندما يتم القبض على سارق، لكن هناك شبهة في الاتهام، هذه الشبهة يجب أن تفسر في صالح المتهم، وندرأ الحد لوجود شبهة؛ فليس من مصلحة المسلمين أن نقول كل يوم: إننا قطعنا يد سارق أو رجمنا زانية. لكن إذا افتضحت الجرائم وليس في ارتكابها شبهة والمسألة واضحة فلا بد أن نضرب على أيدي المجرمين.فنحن ندرأ الحد بالشبهة حتى لا نلحق ضرراً أو ننال من بريء، ونطق الحد حتى يرتدع كل من تسول له نفسه أمراً محرّما حتى لا يرتكب الأمر المحرّم. وعندما يقام الحدّ في أي بيئة، فإنه لا يقام إلا لفترة قليلة وتتراجع بعدها الجرائم، ولا يرى أحد سارقاً أو زانياً.

6-إذن فقول الله تعالى: { وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } يعني: قل لهم ما يهددهم تهديداً يصل إلى أعماق نفوسهم، أو { وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ } بأن تكشف مستورات عيوبهم أو قل لهم في أنفسهم بينك وبينهم؛ لأن هذا أدعي إلى أن يتقبلوه منك ولا يوغر صدورهم ويثير فيهم غريزة العناد.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ… }.

جزء تعليم القراءة والتلاوة

مد منفصل:فِي أَنْفُسِهِمْ

إقلاب:قَوْلًا بَلِيغًا 

مدمتصل:أُولَٰئِكَ

رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

الحمد الله رب العالميين حمدا كثيرا مباركا فية – اللهم دومها نعمة واحفظها من الزوال امين امين امين يا رب

تفسير سورة النساء الاية 62

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم

تفسير اليوم اية 62

فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا

ملخص الاية:
قال تعالى في ذم المنافقين: { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم} أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك؟

{ ثم جاؤك يحلفون باللّه إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً} أي يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق

تتحدث الاية عن:

1-والمنافقون يواجهون تساؤلاً: لماذا ذهبتم للطاغوت ليحكم بينكم وتركتم رسول الله صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ؟. فقالوا: نحن أردنا إحساناً، وأن نرفق بك فلا تتعب نفسك بمشكلاتنا، ونريد أن نوفق توفيقاً بعيداً عنك كيلا تصلك المسائل فتشق عليك، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً على حكمك؛ وهم يقولون هذا بعد أن انفضحوا أمام الناس.{ فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ } والمصيبة هي الأمر يطرأ على الإنسان بما يضرّه في عُرفه؛ ولأنهم منافقون فهم يريدون أن يكون هذا النفاق مكتوماً، فإذا جاءت حادثة لتفضحهم صارت مصيبة. على الرغم من أنّ الحادثة في واقعها ليست مصيبة. فعندما نعرف المنافقين ونظهرهم أمام أنفسهم وأمام الناس فنحن نكفي أنفسنا شرّهم. وهم يريدون بالنفاق أموراً لأنفسهم.وهكذا يكون الكشف لنفاقهم مصيبة بالنسبة لهم، هم يرون النفاق نفعاً لهم، فبه يستفيدون من أحكام الإسلام وإجرائها وتطبيقها عليهم، وعندما ينفضح نفاقهم يشعرون بالمصيبة، مثلهم كمثل الذي ذهب ليسرق، ثم فوجئ وهو داخل المكان ليسرق أن الشرطة موجودة لتقبض عليه، وهذا في الواقع نعمة لأنها تضرب على أيدي المجرم العابث، لكنها بالنسبة له مصيبة.

2-وعندما تحدث لهؤلاء المنافقين مصيبة فهم يحلفون بالله كذباً لأنهم يريدون استدامة نفاقهم.. ويحاولون أن يعتذروا عما حدث، يحلفون بالله إنهم بالذهاب إلى الطاغوت وأرادوا الإحسان والتوفيق بينهم وبين خصومهم. لكن الحق يعلم ما يخفون وما يعلنون.فيقول سبحانه: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ… }.

جزء تعليم القراءة والتلاوة

مد منفصل:إِذَا أَصَابَتْهُمْ- إِنْ أَرَدْنَا-إِلَّا إِحْسَانًا

إقلاب:مُصِيبَةٌ بِمَا

مدمتصل:جَاءُوكَ

إدغام بغنة: إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا

رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

الحمد الله رب العالميين حمدا كثيرا مباركا فية – اللهم دومها نعمة واحفظها من الزوال امين امين امين يا رب

تفسير سورة النساء الاية 61

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم

تفسير اليوم اية 61

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا

ملخص الاية:

{  وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الإسراء: 82].
” شفاء ” إذا وجد الداء من غفلة تطرأ علينا، ” ورحمة ” وذلك حتى لا يأتي الداء.

تتحدث الاية عن:

1-وعندما نسمع قول الحق: { تَعَالَوْاْ } ، فهذا يعني نداء بمعنى: اقبلوا، ولكن كلمة ” أقبلوا ” تعني الإقبال على المساوي لك، أما كلمة: ” تعالوا ” فهي تعني الإقبال على الأعلى. فكأن لقضايا البشر تشريعاً هابطاً؛ لأنه من صناعة العقل البشري، وصناعة العقل البشري في قوانين صيانة المجتمعات – على فرض أننا أثبتنا حسن نياتهم وإخلاصهم – تكون على قدر مستوياتهم في الاستنباط واستقراء الأحداث.لكن التشريع حينما يأتي من الله عز وجل يكون عالياً؛ لأنه – سبحانه – لا تغيب عنه جزئية مهما صغرت، لكن التقنين البشري يوضع لحالة راهنة وتأتي أحداث بعدها تستوجب تعديله، وتعديل القانون معناه أن الأحداث قد أثبتت قصور القانون وأنه قانون غير مستوعب للجديد، وهذا ناشيء من أن أحداثاً جدّت لم تكن في بال من قنّن لصيانة المجتمع، وكان ذهن مشرع القانون الوضعي قاصراً عنها، كما أن تعديل أي قانون لا يحدث إلا بعد أن يرى المشرع الآثار الضارة في المجتمع، تلك الآثار التي نشأت من قانونه الأول، وضغطت أحداث الحياة ضغطاً كبيراً ليعدّلوا في الأحكام والقوانين.أما تشريع الله فهو يحمي المجتمع من أن تقع هذه الأحداث من البداية، هذا هو الفارق بين تشريع وضعي بشري جاء لينقذنا من الأحداث، وتشريع رباني إلهي يقينا من تلك الأحداث. فالتشريع البشري كمثل الطب العلاجي. أما التشريع السماوي فهو كالطب الوقائي، والوقاية خير من العلاج.لذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بالتشريعات التي تقينا وتحمينا من شرّ الأحداث، أي أنه يمنع عن الإنسان الضرر قبل أن يوجد؛ وبذلك تتحقق رحمته سبحانه لطائفة من البشر عن أن تعضّهم الأحداث، بينما نجد للقانون الوضعي ضحايا، فيرق قلب المشرعين بعد رؤية هؤلاء الضحايا ليضعوا التعديل لأحكام وضعوها من قبل، ففي القانون الوضعي نجد بشراً يقع عليهم عبء الظلم لأنه قانون لا يستوعب صيانة الإنسان صيانة شاملة، وبعد حين من الزمن يتدخل المشرعون لتعديل قوانينهم، وإلى أن يتم التقنين يقع البشر في دائرة الغبن وعدم الحصول على العدل. أما الخالق سبحانه فقد برأ وخلق صنعته وهو أعلم بها؛ لذلك لم يغبن أحداً على حساب أحد؛ فوضع تشريعاته السماوية، ولذلك يقول الحق:
{  وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الإسراء: 82].
” شفاء ” إذا وجد الداء من غفلة تطرأ علينا، ” ورحمة ” وذلك حتى لا يأتي الداء.

2-الحق سبحانه وتعالى يقول: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً }. إنه – سبحانه – يضع من الأحداث ما يفضحهم فيتصرفون بما يكشف نفاقهم، وبعد ذلك يخطرهم الرسول  صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ويعرف عنهم المجتمع أنهم منافقون.وهم { يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } أي يُعرضون عنك يا رسول الله  صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم لأنهم منافقون، وكل منافق عنده قضيتان: قضية لسانية وقضية قلبية؛ فهو باللسان يعلن إيمانه بالله وبرسول الله صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم، وفي القلب تتعارض ملكاته عكس المؤمن أو الكافر، فالمؤمن ملكاته متساندة؛ لأن قلبه انعقد على الإيمان ويقود انسجام الملكات إلى الهدى، والكافر أيضاً ملكاته متساندة؛ لأنه قال: إنه لم يؤمن ويقوده انسجام ملكاته إلى الضلال، لكن المنافق يبعثر ملكاته!! ملكة هنا وملكة هناك، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار، الكافر منطقي مع نفسه، فلم يعلن الإيمان؛ لأن قلبه لم يقنع، وكان من الممكن أن يقول كلمة الإيمان لكن لسانه لا يرضي أن ينطق عكس ما في القلب، وعداوته للإسلام واضحة. أما المنافق فيقول: يا لساني.. أعلن كلمة الإيمان ظاهراً؛ كي أنفذ من هذا الإعلان إلى أغراضي وأن تطبّق عليّ أحكام الإسلام فانتفع بأحكام الإسلام، وأنا من صميم نفسي إن وجدت فرصة ضد الإسلام فسأنتهزها. ولذلك يقول الحق: { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ… }.

جزء تعليم القراءة والتلاوة

مد منفصل:تَعَالَوْا إِلَىٰ- مَا أَنْزَلَ

 

رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

الحمد الله رب العالميين حمدا كثيرا مباركا فية – اللهم دومها نعمة واحفظها من الزوال امين امين امين يا رب

تفسير سورة النساء الاية 60

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم

تفسير اليوم اية 60

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا

اسباب نزول الاية:

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ…} الآية [60].
أخبرنا سعيد بن محمد العدل، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حَمْدان، قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدَّثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدَّثنا أبو اليمان، قال: حدَّثنا صَفْوان بن عمرو، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس، قال:
كان أبو بُرْدَةَ الأَسْلَمِي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه أناس من أسْلَمَ، فأنزل الله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ} إلى قَوْلِهِ { وَتَوْفِيقاً} .
أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، قال: حدَّثنا أبو صالح شُعَيب بن محمد، قال: حدَّثنا أبو حاتم التَّميمي، قال: حدَّثنا أبو الأزهر، قال: حدَّثنا رُوَيْمٌ، قال: حدَّثنا سعيد عن قتادة قال:
ذكِرَ لنا أن هذه الآية أنزلت في رجل من الأنصار يقال له: قيس، وفي رجل من اليهود – في مُدارَأة كانت بينهما في حق تَدَارَا فيه، فتنافرا إلى كاهن بالمدينة ليحكم بينهما، وتركا نبي الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم، فعاب الله تعالى ذلك عليهما، وكان اليهودي يدعوه إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم وقد علم أنه لن يَجُورَ عليه، وجعل الأنصاري يأبى عليه، وهو يزعم أنه مسلم، ويدعوه إلى الكاهن. فأنزل الله تعالى ما تسمعون، وعاب على الذي يزعم أنه مسلم، وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب – فقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} إلى قوله { يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} .
أخبرني محمد بن عبد العزيز المَرْوزِيّ في كتابه، قال: أخبرنا محمد بن الحسين قال: أخبرنا محمد بن يحيى، قال: أخبرنا إسحاق الحَنْظَليّ قال: أخبرنا المُؤَمِّل، قال: حدَّثنا يزيد بن زُرَيْع، عن دَاود، عن الشَّعبي، قال:
كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم، لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم، لأنه علم أنهم يأخذون الرّشوة في أحكامهم. فلما اختلفا اجتمعا على أن يُحكِّما كاهناً في جُهَيْنَةَ، فأنزل الله تعالى في ذلك: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يعني المنافق { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} يعني اليهودي: { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ} إلى قوله: { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
وقال الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الشرف – وهو الذي سماه الله تعالى الطاغوت – فأبى اليهودي إلا أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم. فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم، فاختصما إليه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم لليهودي. فلما خرجا من عنده لَزِمَهُ المنافق وقال: ننطلق إلى عمر بن الخطاب. فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمد  صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم فقضى لي عليه، فلم يرض بقضائه، وزعم أنه مخاصم إليك، وتعلق بي فجئت معه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقال لهما: رُوَيداً حتى أخرج إليكما. فدخل عمر [البيت] وأخذ السيف فاشتمل عليه، ثم خرج إليهما وضرب به المنافق حتى بَرَدَ، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم. وهرب اليهودي، ونزلت هذه الآية. وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فَرَقَ بين الحق والباطل. فسمي الفارُوق.
وقال السُّدِّي: كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضهم، وكانت قريظة والنَّضِير في الجاهلية إذا قَتل رجلٌ من بني قريظة رجلاً من بني النَّضِير قُتِلَ به وأخذ ديته مائة وَسقٍ من تمر، وإذا قتل رجلٌ من بني النَّضير رجلاً من قُرَيْظَةَ لم يقتل به، وأعطى ديته ستين وَسقاً من تمر. وكانت النّضير حلفاء الأَوْس. وكانوا أكبر وأشرف من قُرَيْظَة، وهم حلفاء الخَزْرَج، فقتل رجلٌ من النضير رجلاً من قريظة، واختصموا في ذلك، فقالت بنو النضير: إنا وأنتم [كنا] اصطلحنا في الجاهلية على أن نقتل منكم ولا تقتلوا منا، وعلى أنّ ديتكم ستون وَسْقاً – والوسق: ستون صاعاً – وديتنا مائة وَسْق، فنحن نعطيكم ذلك. فقالت الخزرج: هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهلية؛ لأنكم كَثُرْتُم وقَلَلنَا فقهرتمونا، ونحن وأنتم اليوم إِخوة وديننا ودينكم واحد، وليس لكم علينا فضل. فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي بُرْدَة الكاهن الأسلمي، وقال المسلمون: لا بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم. فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بُرْدَةَ ليحكم بينهم، فقال: أعظموا اللّقمة – يعني الرشوة – فقالوا: لك عشرة أوْسُق، قال: لا بل مائة وسق ديتي؛ فإني أخاف إن نَفَّرْت النَضِيري قتلتني قُرَيظَةُ، وإن نَفَّرت القُرَيْظِي قتلني النّضِير. فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق، وأبى أن يحكم بينهم. فأنزل الله تعالى هذه الآية، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم كاهن أسْلم إلى الإسلام، فأبي فانصرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم لابنيه: ادركا أباكما فإنه إنْ جَاوَزَ عَقَبةَ كذا لم يسلم أبداً، فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم منادياً فنادى: أَلا إنَّ كاهِنَ أسْلَم قد أسْلَم.

ملخص الاية:

-هذا إنكار من اللّه عزَّ وجلَّ على من يدعي الإيمان بما أنزل اللّه على رسوله  صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب اللّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار، ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم، وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنّة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت

تتحدث الاية عن:

1-نعرف أن { أَلَمْ تَرَ } ألم تعلم، إن كان المعلوم قد سبق الحديث عنه، أو إن كان المعلوم ظاهراً حادثاً بحيث تراه، ونعرف أن الحق عبّر بـ { أَلَمْ تَرَ } في كثير من القضايا التي لم يدركها المخاطب وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ، ليدلنا على أن ما يقوله الله  تعالى- وإن كان خبراً عما مضى – يجب أن تؤمن به إيمانك بالمرئى لك الآن، لأن الله عز وجل أوثق في الصدق من عينك؛ فعينك قد تخدعك، لكن حاشا أن يخدعنا الله.

2-{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } والمراد هم المنافقون وبعض من أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم . ” والزعم “: مطية الكذب، فهم { يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } وهو القرآن؛ { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } ، وهو التوراة والإنجيل و { يُرِيدُونَ } بعد ادعاء الإيمان؛ { أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ } ، والتحاكم إلى شيء هو: الاستغاثة أو اللجوء إلى ذلك الشيء لينهي قضية الخلاف. فعندما نقول: ” تحاكمنا إلى فلان ” ، فمعنى قولنا هذا: أننا سئمنا من آثار الخلاف من شحناء وبغضاء، ونريد أن نتفق إلى أن نتحاكم، ولا يتفق الخصمان أن يتحاكما إلى شيء إلا إذا كان الطرفان قد أجهدهما الخصام، فهما مختلفان على قضية، وأصاب التعب كُلاًّ منهما.

3-{ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ }. ” الطاغوت ” – كما عرفنا – هو الشخص الذي تزيده الطاعة طغياناً، فهناك طاغٍ أي ظالم، ولما رأى الناس تخافه استمرأ واستساغ الظلم مصداقاً لقول الحق:
{  فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } [الزخرف: 54].
وهذا اسمه ” طاغوت ” مبالغة في الطغيان. والطاغوت يطلق على المعتدى الكثير الطغيان سواء أكان أناساً يُعبدون من دون الله ولهم، تشريعات ويأمرون وينهون، أم كان الشيطان أعوذ بالله منة الذي يُغري الناس، أم كان حاكماً جبّاراً يخاف الناس شرّه، وأي مظهر من تلك المظاهر يعتبر طاغوتاً. وقالوا: لفظ الطاغوت يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع فتقول رجل طاغوت، ورجلان طاغوت، ورجال طاغوت، يأتي للجمع كقوله الحق:

{  ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ }
[البقرة: 257].
ويأتي للمفرد كقوله الحق:{ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } [النساء: 60].
إذن فمرة يأتي للجمع ومرة يأتي للمفرد، وفي كل حكم قرآني قد نجد سبباً مخصوصاً نزل من أجله الحكم، فلا يصح أن نقول: إن حكماً نزل لقضية معينة ولا يُعدَّى إلى غيرها، هو يُعدَّي إلى غيرها إذا اشترك معها في الأسباب والظروف، فالعبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السبب.

4-لقد نزلت هذه الآية في قضية منافق اسمه ” بشر “.حدث خلاف بينه وبين يهودي، وأراد اليهودي أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ، وأراد المنافق أن يتحاكم إلى ” كعب بن الأشرف ” ، وكان اليهودي واثقاً أن الحق له ولم يطلب التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم حباً فيه، بل حباُ في عدله، ولذلك آثر مَن يعدل، فطلب حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ، أما المنافق الذي يعلن إسلامه ويبطن ويخفي كفره فهو الذي قال: نذهب إلى كعب بن الأشرف الطاغوت، وهذه تعطينا حيثية لصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم في البلاغ عن الله في قوله: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ }.وكون اليهودي يريد أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ، فهذه تدل على ثقته في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم لن يضيع عنده الحق، ولم يطلب التحاكم إلى كبير من كبراء اليهود مثل ” كعب بن الأشرف ” لأنه يعرف أنه يرتشي.

5-ويختم الحق الآية: { وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } فهما حين يتحاكمان إلى الطاغوت وهو ” كعب بن الأشرف “؛ وبعد ذلك يقضي لمن ليس له حق، سيغري مثل هذا الحكم كل من له رغبة في الظلم أن يظلم، ويذهب له ليتحاكم إليه! فالضلال البعيد جاء هنا لأن الظلم سيتسلسل، فيكون على القاضي غير العادل وزر كل قضية يُحكم فيها بالباطل، هذا هو معنى { ضَلاَلاً بَعِيداً } ، وليت الضلال يقتصر عليهم، ولكن الضلال سيكون ممتداً.ويقول الحق بعد ذلك: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ… }.

جزء تعليم القراءة والتلاوة

مد منفصل:بِمَا أُنْزِلَ-وَمَا أُنْزِلَ-أُمِرُوا أَنْ

إدغام بغنة:أَنْ يَتَحَاكَمُوا -أَنْ يُضِلَّهُمْ

إقلاب:ضَلَالًا بَعِيدًا 

رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

الحمد الله رب العالميين حمدا كثيرا مباركا فية – اللهم دومها نعمة واحفظها من الزوال امين امين امين يا رب

 

تفسير سورة النساء الاية 59

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم

تفسير اليوم اية 59

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا

أسباب نزول الاية

قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ…} الآية. [59].
أخبرنا أبو عبد الرحمن بن أبي حامد العَدْل، قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي زكريا الحافظ، قال: أخبرنا أبو حامد بن الشّرقي، قال: حدَّثنا محمد بن يحيى، قال: حدَّثنا حَجَّاج بن محمد، عن ابن جُرَيْج، قال: أخبرني يَعْلَى بن مُسْلِم، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ} قال:
نزلت في عبد الله بن حُذَاقة بن قَيْس بن عَدِي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم  في سَرِيَّة. رواه البخاري عن صدقة بن الفضل، ورواه مسلم عن زهير بن حرب؛ كلاهما عن حجاج.
وقال ابن عباس في رواية بَاذَان: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم خالد بن الوليد في سَرِيّة، إلى حيّ من أحياء العرب، وكان معه عمَّار بن يَاسِر، فسار خالد حتى إذا دنا من القوم عَرَّسَ لكي يُصَبِّحَهُم، فأتاهم النذير فهربوا غير رجل قد كان أسلم، فأمر أهله أن يتأَهَبُوا للمسير، ثم انطلق حتى أتى عسكر خالد، ودخل على عمّار فقال: يا أبا اليَقْظَان! إِني منكم، وإنْ قومي لمّا سمعوا بكم هربوا، وأقمت لإسلامي، أفَنَافِعِي ذلك، أم أهرب كما هرب قومي؟ فقال: أقم فإن ذلك نافعك. وانصرف الرجل إلى أهله وأمرهم بالمقام، وأصبح خالد فأغار على القوم، فلم يجد غير ذلك الرجل، فأخذه وأخذ ماله، فأتاه عمّار فقال: خل سبيل الرجل فإِنه مسلم، وقد كنت أَمَّنته وأمرته بالمُقام. فقال خالد: أنت تجِيرُ عليّ وأنا الأمير؟ فقال: نعم، أنا أجير عليك وأنت الأمير. فكان في ذلك بينهما كلام، فانصرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم، فأخبروه خبرَ الرجل، فأمَّنه النبي (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)، وأجاز أمان عمّار، ونهاه أن يجير بعد ذلك على أمير بغير إذنه.
قال: واسْتَبَّ عمّار وخالد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)، فأغلظ عمّار لخالد، فغضب خالد وقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)أتدع هذا العبد يشتمني؟ فوالله لولا أنت ما شتمني- وكان عمار مولى لهاشم بن المغيرة – فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) : “يا خالد، كفّ عن عمار فإنه من يسب عماراً يسبّه الله، ومن يبغض عماراً يبغضه الله”. فقام عمار، فتبعه خالد فأخذ بثوبه وسأله أن يرضى عنه، فرضي عنه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمر بطاعة أولي الأمر.

ملخص الاية:

لا تخلط بين السنة وهي الأمر الذي إن فعلته تثاب وإن لم تفعله لا تعاقب، والفرض الذي يجب على المكلفَّ أن يفعله، فإن تركه أثم وعوقب على الترك

تتحدث الاية عن:

1-هذه الآية كثر كلامنا فيها، وفي كل مناسبة من المناسبات جاء الكلام عنها، ولكن علينا أيضاً أن نعيد بشيء من الإيجاز ما سبق أن قلناه فيها، الله سبحانه وتعالى يقول: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } ، ولماذا أطيع الله وأطيع الرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)؟ لأن فيه الحيثيات المقدمة، فأنت عندما ترى حكما من القاضي تجد أن هناك حيثيات الحكم أي التبرير القانوني للعقوبة أو للبراءة؛ فيقول القاضي: بما أنه حدث كذا فقانونه كذا حسب المادة كذا. هذه هي الحيثيات. و ” الحيثيات ” مأخوذة من: حيث إنه حدث كذا فحكمنا بكذا. أو حيث إنه لم يحدث كذا فحكمنا بكذا، إذن فحيثيات الحكم معناها: التبريرات التي تدل على سند الحكم لمن حكم.هنا يقول سبحانه: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ }. وهل الحق سبحانه وتعالى قال: يا أيها الناس أطيعوا الله وأطيعوا الرسول؟ لا. لم يقل ذلك، لقد قال: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }. إذن فما دمت قد آمنت بالله إلهاً حكيماً خالقاً عالماً مكلِّفاً فاسمع ما يريد أن يقوله لك، فلم يكلف الله مطلق أناس بأن يطيعوه، إنما دعا مطلق الناس أن يؤمنوا به. ومن يؤمن يقول له: أطعني ما دمت قد آمنت بي.إذن فحيثية الطاعة لله ولرسولة (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) نشأت من الإيمان بالله وبالرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم). وهذه عدالة كاملة؛ لأنه سبحانه لا يكلف واحداً أن يفعل فعلاً إلا إذا كان قد آمن به – سبحانه – مكلِّفاً، آمن به أمراً، أما الذي لا يؤمن به فهو لا يقول له: افعل كذا ولا تفعل كذا، إنه سبحانه يطالبه أن يؤمن به أولاً، فإذا ما آمن به يقول له: استمع إلى، ولذلك تجد كل تكليف يصدر بقوله سبحانه: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }.

2-إن حيثية إطاعة الله وإطاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) هي: الإيمان به، هذه هي الحيثية الإيمانية الأولى، أما إن جال ذهنك لتدرك سر الطاعة، فهذا موضوع آخر، ولذلك أوضح: إياكم أن تقبلوا على أحكام الله بالبحث فيها أولا فإن اقتنعتم بها أخذتموها وإن لم تقتنعوا بها تركتموها، لا. إن مثل هذا التصرف معناه أنك شككت في الحكم. بل عليك أن تقبل على تنفيذ أحكامه؛ لأنه سبحانه قالها وأنت مؤمن بأنه إله حكيم. لكن هل ذلك يمنع عقلك من أن يجول ليقهم الحكمة؟نقول لك: أنت قد تفهم بعض الحكمة، ولكن ليست كل الحكمة؛ لأن كمالات حكمة الله تعالى لا تتناهى، فقد تعرف جزءاً من الحكمة وغيرك يعرف جزءاً آخر، ولذلك قالوا: إن الفرق بين أمر البشر للبشر، وأمر الله للمؤمنين به شيء يسير جداً هو: أمر الله للبشر تسبقه العلة وهي أنك آمنت به، أما أمر البشر للبشر فأنت تقول لمن يأمرك: أقنعني لماذا أفعل هذه؟؛ لأن عقلك ليس أرقى من عقلي.فأنت لا تصنع شيئا إلا إذا اقتنعت به. وتكون التجارب قد أثبتت لك أصالة رأى من تستمع له وأنه لن يغشك.وهكذا نرى أن طاعتنا لله تختلف عن طاعتنا للمخلوق؛ فنحن نطيع الله تعالى لأننا آمنا به وحينما يطلب سبحانه منا أن نطيعه، ننظر هل هذه الطاعة لصالحنا أو لصالحه؟ فإذا وثقنا أنه بكل صفات الكمال الموجودة له خلقنا؛ إذن فسبحانه لا يريد صفة جديدة تكون له؛ لأنه لم يخلقنا إلا بصفات الكمال فيه، وسبحانه قد خلقك دون أن يكون لك حق الخلق عنده، خلقك بقدرته، وأمدك لاستبقاء حياتك بقيوميته، فحين يطلب منك الإله الذي يتصف بتلك الكمالات شيئا فهو يطلبه لصالحك، كما ترى أي إنسان من البشر – ولله المثل الأعلى – يُعني بصنعته ويحب أن تكون صنعته متميزة، فكذلك الحق سبحانه وتعالى يريد أن يباهي بهذا الخلق. ويباهي بهذا الخلق ليس بالإكراه على أن يفعلوا ما يأمر به بالتسخير لا. بل بالمحبوبية لأمر الله تعالى وأن نعلن بسلوكنا. نحن نحبك يا ربنا. وإلا فأنت – أيها الإنسان – قد تختار أن تكون عاصيا. وما دمت مخيرا أن تكون عاصياً ثم أطعت، فهذه تثبت لله صفة المحبوبية لأنه؛ – كما تعرف – هناك فرق بين من يقهر بقدرته ومن يعطيك الاختيار حتى تأتيه وأنت محب، على الرغم من أنه قادر على أن يقهرك.فساعة قال الحق: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } معناها: أنه لم يطلب منا شططاً، وكيف نطيع الله؟ أن نطيعه في كل أمر، وهل أَمَرَ اللهُ خَلْقَه منفردين؟. لا، بل أمرهم كأفراد وكجماعة، وأعطاهم الإيمان الفطري الذي يثبت أن وراء الكون قوة أخرى خلقته. وهذه القوة لا يعرف أحد اسمها، ولا مطلوباتها، أو ماذا ستعطي لمن يطيعها؛ إذن فلا بد أن يوجد مُبلِّغ. ولذلك فأنا أرى أن بعض الفلاسفة قد جانبوا الصواب عندما قالوا: إن العقل كاف في إدراك الدين، وأقول لهم: لا. العقل كاف في إدراك من ندين له، ولكن العقل لا يأتي لنا بكيفية الدين ومنهجه.لذلك لا بد من بلاغ عنه يقول: افعلوا كذا وكذا وكذا، نقول لهؤلاء الفلاسفة: إن العقل كافٍ في استنباط وجود قوة وراء هذا الكون، أما شكل هذه القوة، واسمها وماذا تريد؛ فلا أحد يعرف ذلك إلا أن يوجد مبلِّغ عن هذه القوة، ولا بد أن تكون القوة التي آمنت بها بفطرتك قد أرسلت من يقول: اسمه كذا، ومطلوبه كذا، إذن فقوله: { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } يلزم منها إطاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم).

3-وبعد ذلك قال: { وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ } هنا لم يتكرر لهم الفعل، فلم يقل: وأطيعوا أولي الأمر لنفهم أن أولي الأمر لا طاعة لهم إلا من باطن الطاعتين: طاعة الله وطاعة الرسول، ونعلم أن الطاعة تأتي في أساليب القرآن بثلاثة أساليب ” أطيعوا الله والرسول ” و ” أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ” ، وأطيعوا الرسول فقط.إذن فثلاثة أساليب من الطاعة.الأسلوب الأول: أطيعوا الله والرسول؛ فأمر الطاعة واحد والمطاع هو الله والرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم).والأسلوب الثاني: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.
والأسلوب الثالث: أطيعوا الرسول، نعم. فالتكليفات يأمر بها الحق سبحانه وتتأكد بحديث من قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)، أو فعله أو تقريره، وهنا تكون الطاعة في الأمر لله وللرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)، أو أن الحق قد أمر إجمالاً والرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)عين تفصيلاً؛ فقد أطعنا الله في الإجمال وأطعنا الرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) في التفصيل فتكون الطاعة لله، وتكون الطاعة للرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)، أو إن كان هناك أمر لم يتكلم فيه الله وتكلم الرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)فقط. ويثبت ذلك بقول الحق:

{  مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء: 80].
وقوله تعالى:

{  وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر: 7].
إذن فهذه تثبت أن لرسول الله (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) ثلاثة ملاحظ في التشريع: ملحظ يشرع فيه ما شرع الله تأكيداً له أو أن الله قد شرع إجمالاً، والرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) عين تفصيلا. والأمثلة على ذلك: أن الله فرض علينا خمس صلوات، وفرض علينا الزكاة، وهذه تكليفات قالها ربنا؛ والرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) يوضحها: النصاب كذا، والسهم كذا، إذن فنحن نطيع ربنا في الأمر إجمالاً، ونطيع الرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) في الأمر التفصيلي، أو أنّ الأمر لم يتكلم فيه الله حكماً، وإنما جاء من الرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) بتفويض من الله، ولذلك فإن قال لك أي إنسان عن أي حكم من الأحكام: هات دليله من القرآن ولم تجد دليلاً من القرآن فقل له: دليل أي أمر قال به الرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) من القرآن هو قول الحق:

{  وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر: 7].
هذا دليل كل أمر تكليفي صدر عن الرسول – (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) – وقد يقول قائل: هناك فارق بين الأمر الثابت بالسنة والفرض. نقول: لا تخلط بين السنة وهي الأمر الذي إن فعلته تثاب وإن لم تفعله لا تعاقب، والفرض الذي يجب على المكلفَّ أن يفعله، فإن تركه أثم وعوقب على الترك، وهذا الفرض جاء به الحق وأثبته بالدليل كالصلوات الخمس وعدد الركعات في كل صلاة، فالدليل في الفرض هنا ثبت بالسنة وهذا ما يسمى سنية الدليل؛ وهناك فرق بين سنية الحكم كأن يصلي المسلم قبل الظهر ركعتين وقبل الصبح ركعتين وفرضية الحكم كصلاة الصبح والظهر.. إذن ففيه فرق بين الشيء الذي إن فعلته تثاب عليه وإن لم تفعله لا تعاقب عليه والشيء الذي يفرض عليك أداؤه، فإن تركته أثمت وعوقبت، وأما سنية الدليل فهي شرح ما جاءت به الفروض شرحاً تطبيقياً ليتبعه المسلمون.

4-أما الأمر بطاعة أولى الأمر فقد جاءت بالعطف على المطاع دون أمر بالطاعة، مما يدل على أن طاعة وليّ الأمر ملزمه إن كانت من باطن طاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) ، وفي ذلك عصمة للمجتمع الإيماني من الحكام المتسلطين الذين يحاولون أن يستذلوا الناس بقول الله: { وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ } ويدعون أن طاعتهم واجبة، يقول الواحد منهم: ألست ولي أمر؟. فيرد العلماء: نعم أنت ولي أمر ولكنك معطوف على المطاع ولم يتكرر لك أمر الطاعة، فدلّ ذلك على أن طاعتك واجبة إن كانت من باطن الطاعتين. فإن لم تكن من باطن الطاعتين فلا طاعة لك، لأن القاعدة هي ” لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ” ، هكذا قال أبو حازم لمسلمة بن عبد الملك حينما قال له: ألسنا ولاة الأمر وقد قال الله: { وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ }. قال: ويجب أن نفطن أيضاً إلى أنها نزعت في قوله سبحانه: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ }. إذن فالحاكم المسلم مطالب أولاً بأداء الأمانة، ومطالب بالعدل، ومطالب أيضاً أن تكون طاعته من باطن طاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم). فإن لم تكن فيه هذه الشروط، فهو حاكم متسلط.

5-{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } إذن فالتنازع لا بد من أن يكون في قضية داخلة في نطاق مأمورات الطاعة، ويجب أن يكون لها مردّ ينهى هذا التنازع { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }.والذين يعرفون هذه الأحكام هم العلماء، فإن تنازع المحكوم مع الحاكم نذهب إلى العلماء ليبينوا لنا حكم الله في هذه المسألة، إذن فإن أريد بـ ” أولي الأمر ” الحاكم، نقول له: { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } أي على الحاكم أن يتبع ما ثبت عن الله والرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)، والحجة في ذلك هم العلماء المشتغلون بهذا الأمر، وهم الملاحظون لتنفيذ حكم الله بما يعرفونه عن الدين. والحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا ذلك، يريد أن ينهي مسألة التنازع، لأن التنازع يجعل حركات الحياة متضاربة، هذا يقول بكذا وذلك يقول بكذا، فلا بد أن نرده إلى مردّ أعلى، والحق يقول:{  وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }
[النساء: 83].
إذن فقد يكون المراد بأولى الأمر ” العلماء “.نقولك إن الآية الأولى عامة وهي التي جاءت بها طاعة ولي الأمر ضمن طاعة الله والرسول(صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)، والثانية التي تخص الاستنباط يكون المقصود بأولى الأمر هم العلماء.و أولوا الأمر في القضية الأولى التي عندما نتنازع معهم في أمر نرده إلى الله والرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)هم الذين يشرفون على تفنيذ أحكام الله، وهذه سلطة تنفيذية، أما سلطة العلماء فهي تشريعية إيمانية.

6-{ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } إذن فالذي لا يفعل ذلك يجازف بأن يدخل في دائرة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ونقول لكل منهم: راجع إيمانك بالله واليوم الآخر – ابتداءً في تلقي الحكم، وإيمانا باليوم الآخر – لتلقي الجزاء على مخالفة الحكم، فالحق لم يجعل الدنيا دار الجزاء.

7-وينبهنا الحق في ختام الآية: { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي في ذلك خير للحكام وللمحكومين معاً؛ لأن الخير هو أن يقدر الإنسان ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وكل شهوة من الشهوات إن قدَّرت نفعها فلن تنفعك سوى لحظة ثم يأتي منها الشر.والتأويل هو: أن تُرْجع الأمر إلى حكمه الحقيقي، من ” آل ” يئول إذا رجع { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } تعني أحسن مَرْجعاً وأحمد مغبة وأجمل عاقبة؛ لأنك إن حرصت بما تريد على مصالح دنياك، فما ترجع إليه سيكون فيه شر لك. إذن فالأحسن لك أن تفعل ما يجعلك من أهل الجنة، أو ” وأحسن تأويلا ” في الاستنباط، لأن العلماء سيأخذونه من منطلق مفهوم قول الله وقول الرسول (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم)، وأنت ستأخذها بهواك، وفهمك عن الله يمنعك من الشطط ومن الخطأ.فإن كنتم تريدون الخير فلاحظوا الخير في كل أحيانه وأوقاته، ولا ينظر الإنسان إلى الخير ساعة يؤدي له ما في هواه، ولكن لينظر إلى الخير الذي لا يأتي بعده شر. وإذا ما نظرنا تاريخ الكثير من الحكام ووجدناهم قد أمنوا على انتقادهم في حياتهم بما فرضوه من القهر والبطش، فلما ماتوا ظهرت العيوب، وظهرت الحملات، إن الواجب على من يحكم أن يعتبر بما سمع عمن حكم قبله. فالذي حكم قبله كمم الأفواه وكسر الأقلام، وبعدما انتهى، طالت الألسنة وكتبت الأقلام، فيجب أن نحسن التأويل وأن ننظر إلى المرجع النهائي، فمن استطاع أن يحمي نفسه في حياته بسطوته وجبروته لا يستطيع أن يحمي تاريخه وسمعته. إنه بعد أن انتهت السطوة والجبروت قيل فيه ما قيل، ونحن مازلنا في الدنيا ولم نذهب إلى الآخرة بعد؛ فإذا كان هذا هو جزاء الخلق. فما شكل جزاء الحق إذن؟!{ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي مرجعاً وعاقبة.ويقول الحق بعد ذلك: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ… }.

جزء تعليم القراءة والتلاوة

مد منفصل:يَا أَيُّهَا

إدغام بغنة:خَيْرٌ وَأَحْسَنُ

إخفاء:شَيْءٍ فَرُدُّوهُ

رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

الحمد الله رب العالميين حمدا كثيرا مباركا فية – اللهم دومها نعمة واحفظها من الزوال امين امين امين يا رب

تفسير سورة النساء الاية 58

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم

تفسير اليوم اية 58

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا

أسباب نزول الاية

قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا} . [58].
نزلت في عثمان بن طَلْحَةَ الحَجَبِيّ، من بني عبد الدار، كان سَادِن الكعبة، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم مكة يوم الفتح، أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم المفتاح، فقيل إنه مع عثمان، فطلب منه فأبى وقال: لو علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم لما منعته المفتاح، فلوى عليّ بن أبي طالب يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم البيت وصلى فيه ركعتين، فلما خرج سأله العباس أنه يعطيه المفتاح ليجمع له بين السقاية والسِّدَانة فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك عليّ، فقال له عثمان: يا علي أَكْرهْتَ وآذيت ثم جئت ترفق! فقال: لقد أنزل الله تعالى في شأنك، وقرأ عليه هذه الآية فقال عثمان: أشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم رسول الله؛ وأسلم، فجاء جبريل عليه السلام وقال: ما دام هذا البيت فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان. وهو اليوم في أيديهم.
أخبرنا أبو حسان المُزَكّي، قال: أخبرنا هارون بن محمد الإسْتَرابَاذِي، قال: حدَّثنا أبو محمد الخُزاعي، قال: حدَّثنا أبو الوليد الأزْرَقي، قال: حدَّثنا جدي، عن سفيان، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن مجاهد في قول الله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا} قال:
نزلت في [عثمان] بن طَلْحَة، قبض النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم مفتاح الكعبة، فدخل الكعبة يوم الفتح فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح، وقال: خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله، لا ينزعها منكم إلا ظالم.
أخبرنا أبو نصر المِهْرَجَاني، قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد، قال: أخبرنا أبو القاسم المُقْرِي، قال: حدَّثني أحمد بن زهير، قال: أخبرنا مُصْعَب، قال: حدَّثنا شَيْبَةُ بن عثمان بن أبي طَلْحَةَ، قال:
دفع النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم المفتاح إليَّ وإلى عثمان، وقال: خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تَالِدَة، لا يأخذها منكم إلا ظالم. فبنو أبي طلحة – الذين يَلُونَ سِدَانَةَ الكعبة – من بني عبد الدَّار.

ملخص الاية:

{ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } و ” نعما ” يعني نعم ما يعظكم به الله، أي لا يوجد أفضل من هذه العظة التي هي: أداء الأمانة والحكم بالعدل، فبهذا تستقيم حركة الحياة.

إن قوله: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ }. يُفهم منها أيضاً حماية حقوق من آمن بالإسلام ومن لم يؤمن بدين الإسلام؛ لأن الحق جل وعلا يريد منا أن نؤدي الأمانة إلى ” أهلها ” ، ولم يقل ” أهلها ” المؤمنين أو الكافرين.

-مواقف للرسول علية الصلاة والسلام والصحابة فى الامانة والعدل بين الناس

تتحدث الاية عن :

1-وقوله سبحانه: { أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا } ، أوجز الله فيها كل تكاليف السماء لأهل الأرض، لأن الأمانات هي: الأمانة العليا وهي الإيمان بالله، والأمانة التي تتعلق ببني الجنس، والأمانة التي على النفس لكل الأجناس.ومعنى الأمانة هو: ما يكون لغيرك عندك من حقوق وأنت أمين عليها، إن شئت فعلتها، وإن شئت لم تفعلها، أنت تقول: أنا أودعت عند فلان أمانة، هذه الأمانة لو كانت بإيصال لما كانت أمانة؛ لأن هناك دليلاً، ولو كان ما أودعته عند ذلك الإنسان عليه شهود لا تكون أمانة. فالأمانة: أن تودع عنده شيئاً، وضميره هو الحكم، إن شاء أقر بما عنده لك حين تطلبه، وإن شاء لم يقر به، قال الحق:
{  إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72].
فما هي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبت أن تحملها ثم حملها الإنسان، وعلة تحمله لها أنه كان ظلوماً جهولاً؟ إن الكون كما نعلم فيه أجناس، أدناها الجماد، وأوسطها النبات، وأعلى من الأوسط الحيوان ثم الإنسان، والإنسان هو سيد هذه الأجناس، لأنها تخدمه جميعها، لكن الجماد والنبات والحيوان لا اختيار لأي منها في أن يفعل أو لا يفعل، وإنما كل جنس منها قد خلق لشيء ليؤديه، ولا اختيار له في أن يمتنع عن الأداء.الأرض والسماوات والجبال لم تقبل أن تكون مختاره أو أن تحمل أمانة وتكون المسألة فيها راجعة إلى اختيارها إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل. وأشفقت الأرض والسماوات والجبال من حمل الأمانة لعدم الثقة بحالة النفس وقت أداء الأمانة. فيجوز أن يعقد الكائن العزم عند تحمل الأمانة أن يؤديها، ولكن عند أدائها لا يملك نفسه، فربما خانته نفسه وجعلته لا يقر بها. لقد احتاطت السماوات والأرض والجبال وقالوا: لا نريد هذه الأمانة ولا نريد أن نكون مختارين بين أن نفعل أو نترك، نطيع أو نعصي، وإنما يا رب نريد أن نكون مسخرين لما تحب دون اختيار لنا. فسلمت الأرض والسماوات والجبال، لكن الإنسان بما فيه من فكر يرجع الاختيار بين البديلات قال: أنا أقبلها وإن فكري سيخطط لأدائها. ولم يلتفت الإنسان ساعة تحمله الأمانة إلى حالة أدائه لها.ومثال ذلك: من الجائز أن يعرض عليك إنسان مبلغاً من المال كأمانة عندك، فأخذته وأنت واثق أنك ستؤديه حين يطلبه منك، ولكنك ساعة الأداء قد لا تملك نفسك، فقد تمر بك ظروف فتصرف شيئاً من المال، أو أن تكون – والعياذ بالله – قد خربت ذمتك.إذن فالإنسان لا يملك نفسه وقت الأداء وإن ملك نفسه وقت الأخذ، فالذين يحتاطون يقولون: أبعد عنا تحمل الأمانة، فلا نريد أن نحمل لك شيئاً ولكن الإنسان قبل تحمل الأمانة؛ لأنه ” كان ظلوما جهولا ” ظلم نفسه وجهل بحالته وقت الأداء،

2-إذن فالأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان هي أمانة الاختيار التي يترتب عليها التكليف من الله.؟إن التكليف محصور في ” افعل ” و ” لا تفعل ” ، فإن شئت فعلت في ” افعل ” ، وإن شئت لم تفعل في ” لا تفعل “. وإن شئت العكس، ومعنى ذلك أن الأمانة في هذا المعنى مقصورة على ما طلبه الله من الإنسان وقت العرض. لكنها لم تتعرض للأمانات التي توجد بيننا، والأمانة كذلك هي ما يتعلق بذمتك بحق غيرك؛ لذلك فحين يعطي إنسان إنساناً شيئاً يصير الآخذ مؤتمناً فإن شاء أدى وإن شاء لم يؤد.لكن هناك أمانات أخرى لم يعطها إنسان لإنسان، وإنما أعطاها رب الإنسان لكل إنسان، فالعلم الذي أعطاه الله للناس أمانة. فهل الذي علمك علماً وأعطاه لك وبعد ذلك قال لك: أدّه لي، كمثل من يكون مأموناً على مال؟ نقول للعالم: العلم ليس من عندك حتى تعطيه لغيرك وبعد ذلك يرده لك ولكن الله يجازيك عليه ثواباً وكذلك في الحلم والشجاعة، ولا تتضح هذه المسائل بين العبد والعبد إلا في المال، لكن في بقية الأشياء؛ نقول لك: أنت أمين عليها أمام خالقك، وقد أمنك ربنا على هذه الأشياء كي تؤديها إلا من لا يعلم، فأمنك على قدرةٍ وأمرك: أعطها لمن لا يقدر، وأمنك على علم وأوضح لك: أعطه لمن لا علم له..إذن فمن الذي أعطاك هذه الأمانة؟ الله. فليس ضرورياً أن تكون الأمانة من صاحبها الذي أعطاها لك لتردها إليه، فالأمانة: ما تصير مأموناً عليه مِمن خَلَقَ أو من مخلوق، فأدها، والأمانة بهذا المعنى أمرها واسع، فاستحقاق الله للتوحيد أمانة عندك، أهليتك للتكليف من الله حين كلفك أمانة عندك، وأهليتك في المواهب المختلفة أمانة عندك، فكل إنسان عنده موهبة هو أمين عليها ولا بد أن يؤديها وينقل آثارها لم لا توجد عنده هذه الموهبة. فربنا أعطى هذا الإنسان قوة عضل، وأعطى ذلك قوة فكر، وأعطى ثالثاً قوة حلم، وأعطى رابعاً علماً. كل هذه الأشياء أمانات أودعها الله في خلقه ليتكامل الخلق، فحين يؤدي كل إنسان أمانته لكل إنسان يصبح كل إنسان عنده مواهب كل الآخرين.

3-والحق سبحانه وتعالى حينما يقول: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا } نتذكر على الفور قمة الأمانة أن تعبده ولا تشرك به أحداً، والأمانة في التكاليف التي كلفك الله بها؛ لأنها أمانة لغيرك عندك، وأمانة عندك لغيرك. فحين يكلفك الله بألا تسرق، يكون قد كلف الناس كلهم ألا يسرقوك.إن كل أمانة عند غيرك تقابلها أمانة عندك، فإن أديت مطلوبات الأمانة عندك أدى المجتمع الذي يحيط بك الأمانة التي عنده، وهكذا تكون الأمانة هي: أداء حق في ذمتك لغيرك.

4-وقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا } قيل نزلت في عثمان ابن طلحة ابن أبي طلحة وكان سادن – خادم – الكعبة وحين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم لم أمنعه فلوى عليُّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم – وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجتمع له السقاية والسِّدانة فنزلت هذه الآية فأمر أن يرده إلى عثمان – رضي الله عنه – ويعتذر له فقال عثمان لعلي: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال لقد أنزل الله فيك قرآنا وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان وهبط جبريل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم أن السِّدانة في أولاد عثمان أبداً.وهذا يقابل الأمانة شيء بعد ذلك اسمه العدل، فلو أدى كل واحد ما لغيره عنده من حق لما احتجنا إلى عدل، فالعدل إنما ينشأ من خصومة وتقاضٍ، والتقاضي معناه: أن واحداً أنكر حق غيره. فلو أدى كل واحد منا ما في ذمته من حق لغيره لما وجد تقاضٍ، ولما وجدت خصومة فلا ضرورة إلى العدل حينئذٍ. ولكن الحق الذي خلق الخلق وعلم الأغيار فيهم قدر أن بعض الناس يغفل عن هذه القضية وينشأ منها أن الإنسان قد لا يعطي الحق الذي في ذمته لغيره، فقضي سبحانه بشيء آخر اسمه ” العدل “. ولو أن المسألة الأولى انتهت لما احتجنا للعدل.

5-إذن فالعدل هو علاج للغفلة التي تصيب البشر من الأغيار التي تطرأ على نفوسهم، فشاء الله أن يقول: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } ، في الأولى لم يقل: إذا أئمنتم فأدوا، لا. بل قال: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ }. فإذا حدثت منكم غفلة عن هذه فما الذي يحمي هذه المسألة؟ هنا يأتي العدل وهو أن تقضي بحق في ذمة غيرك لغيره، أي ليس في ذمتك أنت؛ لأنك تحكم كي ترجح مسألة وتضع الأمر في نصابه.وبذلك نعرف أن مطلوبات أداء الأمانة تكون في شيء عندك تؤدية لغيرك، لكن مطلوبات العدل: تكون في أشياء في ذمة غيرك لغيرك. ولذلك قال الحق: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } ، وكما أن آية أداء الأمانة عامة، كان لا بد أن تكون آية العدل عامة أيضاً.إن قوله تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } ليست خاصة للحاكم فقط، بل إنّ كل إنسان مطالب بالعدل، فلو كنت مُحَكَّماً من طرف قوم ورضوا بك أن تحكم فاحكم بالعدل حتى ولو كان الحكم في الأمور التي يتعلق بها التكريم والشرف والموهبة؛ فليس ضرورياً أن يكون الحكم بالعدل في أمر له قيمة مادية، مثلاً: سيدنا الإمام علي – رضوان الله عليه وكرم الله وجهه – يرى غلامين يتحاكمان إلى ابنه الحسن؛ ليحكم بينهما أي الخطين أجمل من الآخر، وهذه المسألة قد ينظر لها الناس على أنها مسألة تافهة لكنها ما دامت شغلت الطفلين وأراد كل واحد منهما أن يكون خطه أجمل، فلا بد أن يكون الحكم بالعدل. فقال الإمام على لابنه الحسن: يا بني انظر كيف تقضي، فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة.إن هذا يعطينا صورة في دقة العدل حتى ولو كان الأمر صغيراً. وفي مباريات كرة القدم تجد الحكم الذي يقول هذه اللعبة تحتسب هدفاً أو لا تحتسب، هذا الحكم يحتاج إلى مهارة لأنه سيترتب عليها فوز فريق أو هزيمته، بدليل أنك حتى وأنت تراقب الكرة ثم وجدت الحكم لم يحتسب خطأ تثور عليه.وهنا أتساءل: لماذا طبقتم قانون الجد في اللعب، ثم تركتم الجد بدون قانون؟ وهذا ما يحدث. نحن ننقل قوانين الجد إلى اللعب، ونترك الجد في بعض الأحيان بدون قانون، ولو اعتنينا بهذه كما اعتنينا بتلك. لتساوت الأمور، فالعدل إذن هو حق في ذمة غير لغير حتى ولو كانت مباراة في اللعب، وما دام الأمر قد شغل طرفين، وجعل بينهما نزاعاً وخلافا وتسابقاً فعليك أن تنهي هذا الخلاف بالعدل.

6-ويتابع الحق: { إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } و ” نعما ” يعني نعم ما يعظكم به الله، أي لا يوجد أفضل من هذه العظة التي هي: أداء الأمانة والحكم بالعدل، فبهذا تستقيم حركة الحياة. فإذا أدى الناس الأمانة فلا نزاع ولا خلاف، وإذا أدوا عدالة الحكم فإن كان هناك خلاف ينتهي. وقال العلماء: إذا علم المجتمع أن عدلا يحرس حقوق الناس عند الناس فلن يجرّيء ذلك ظالماً على أن يظلم بعد ذلك، فيقول الظالم: فلان ظلم ولم يحاكم، فيغري ذلك الظالم أن يزيد في ظلمه، لكن ساعة يرى الناس أحداً يأخذ حق غيره ثم جاء الحاكم فردعه، ورد الحق لصاحبه فلن يظلم أحد أحداً.وسبحانه في أمره هذا لا حاجة له في أن تفعلوا أو لا تفعلوا، فهي أشياء لا تؤثر عنده في شيء، إنما هي في مصالحكم أنتم بعضكم مع بعض، وأحسن ألوان الأمر هو ما لا يعود على الآمر بفائدة، لأن الأمر إذا ما كان فيه عود بالفائدة على الآمر قد يشكك في الأمر.لكن أن تأمر بأمر ليس لك فيه فائدة فهذا قمة العدل. وقد يوجد إنسان يأمر بما لا فائدة له فيه، لكنه قد لا يكون واسع العلم ولا واسع الحكمة، والأمر هنا يختلف لأن الله سبحانه وتعالى ليس له مصلحة في الأمر، هذه واحدة، وأيضاً فهو – سبحانه – واسع العلم والحكمة؛ لذلك كانت هذه العظة مقبولة جداً، وهي نعمة من الله وأما ما عداها فبئست العظة؛ لأن الله لا ينتفع بأمره هذا وهو مأمون على العباد جميعاً، والثانية: أنه قد يوجد غير لا ينتفع بالأمر ولكنه قاصر العلم وقاصر الحكمة فلا نعمت العظة منه، فقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا } يعني: نعم ما يعظكم به الله أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بالعدل.

7-ونلحظ الأداء البياني في القرآن في قوله: ” تؤدوا ” هذه للجماعة، وهذا يعني أن كل واحد مطالب بهذا الحكم أولا، { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } ، فيكون كل واحد مطالباً بالحكم أيضاً، كأن مهمتكم الأمانية ليست مقصورة على أن تصونوا حقوقكم بينكم وبين أنفسكم، لا، فأنتم مكلفون بأن تصونوا الحقوق بين الناس والناس ولو لم يكونوا مؤمنين.

8-إن قوله: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ }. يُفهم منها أيضاً حماية حقوق من آمن بالإسلام ومن لم يؤمن بدين الإسلام؛ لأن الحق جل وعلا يريد منا أن نؤدي الأمانة إلى ” أهلها ” ، ولم يقل ” أهلها ” المؤمنين أو الكافرين.إن كلمة ” الناس ” هذه تدل على عدالة الأمر من إله هو رب للجميع، فسبحانه هو الذي استدعى الإنسان للدنيا، والإنسن منه مؤمن ومنه كافر. لكن أحداً لا يخرج عن نطاق الربوبية لله، فربنا يُربُّ ويرعى كل إنسان – مؤمناً كان أو كافراً – هو يرزق الجميع ولذلك أمر الكون: يا كون أعط من فَعَلَ الأسبابَ الغاية من المسببات إن كان مؤمناً أو كافراً. وهذا هو عطاء الربوبية، إنه – سبحانه – رزق الإنسان وسخر الأشياء له، فهو لم يسخر الكون للمؤمن فقط وإنما سخره للمؤمن وللكافر، فكذلك طلب منا أن نؤدي الأمانة للمؤن والكافر، وطلب منا أن نعدل بين المؤمن والكافر.ولنا في الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم الأسوة الحسنة، فقد حدث أن ” طعمة ابن أُبيرق ” أحد بني ظُفر سرق درعا من جارٍ له اسمه ” قتادة بن النعمان ” ، في جراب دقيق والاثنان مسلمان، إلا أن منافذ الحق لمرتكب الجريمة ضيقة مهما ظن اتساعها، مثلما نقول: ” الجريمة لا تفيد ” ، فوضع الدرع المسروقة في جراب كان فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب وهو يسير من بيت قتادة بن النعمان وخبأ الدرع عند يهودي اسمه ” زيد بن السمين ” ، فلما فطن قتادة بن النعمان لضياع الدرع قال: سرق الدرع.سرق الدرع. فتتبعوا الأثر فوجدوه إلى بيت طعمة ابن أبيرق، فحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه. فتتبعوا الأثر ثانية فوجدوا الدرع عند اليهودي ” زيد بن السمين ” فقال اليهودي دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود، ورفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ، وجاء بنو ظفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبريء اليهودي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم  أن يفعل وأن يعاقب اليهودي فأنزل الله عليه حكمه الفصل:
{  إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } [النساء: 105-107].
أي لا تكن يا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم  مدافعاً عن الخائنين واستغفر الله إن كان هذا الخاطر قد جال برأسك بأن ترفع رأس مسلم على يهودي؛ لأن الحق أولى من المسلم؛ فما دام هو قبل أن يخون فلا تجادل عنه، ولماذا طلب بنو ظفر التغاضي عن جريمة مسلم وإلصاقها بيهودي؟ أيستخفون من الناس ولا يستخفون من الله؟ وافرض أن هذه برأتهم عند الناس. أتبرئهم عند الله؟ ويقول في آية أخرى:

{  هَا أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ }
[النساء: 109].
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } لا بد أن نأخذه على أنه مطلب تكليفي من الله للمسلمين حتى يشيع في كل الناس ولا يخص المؤمنين يتعاملون به فيما بينهم، وإنما يشمل أيضا ما بين المؤمنين والكافرين، وما بين الكافرين بعضهم مع بعض إن ارتضوا حكم رسول الله.

9-{ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } وحين ترون تذييل آية بصفتين من صفات الحق أو باسمين من أسماء الحق، فلا بد أن تعلموا أن بين الصفتين أو بين الاسمين وبين متعلق الآية علاقة، وهنا يعلمنا الحق أنه سميع وبصير. بعد أداء الأمانة، والحكم بالعدل بين الناس، لأن الرسول صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم  شرح ذلك حين أمر من يقضي بين الناس أن يسوي بين الخصمين في لحظى ولفظه أي لا ينظر لواحد دون الثاني، ولا يكرم واحداً دون الآخر، فيسوي بين الاثنين وما دام سيسوي بين الاثنين، فلا بدْ أن تكون النظرة واحدة، والألفاظ واحدة.روى أن يهوديا خاصم سيدنا عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنادى أمير المؤمنين عليا فقال: ” قف يا أبا الحسن ” فبدا الغضب على عليّ رضي الله عنه، فقال له عمر: ” أكرهت أن نسوي بينك وبين خصمك في مجلس القضاء؟ فقال علي رضي الله عنه: ” لا.لكني كرهتُ منك أن عظمتني في الخطاب فناديتني بكنيتي ولم تصنع مع خصمي اليهودي ما صنعت معي “.إذن فحين يقول عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري: ” آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك “.فلا بد أن يقوم بتلك التسوية كل حاكم أو محكم بين خصمين فلا يميز ولا يرفع خصما على خصمه.و ” اللحظ ” عمل العين. وهذا يحتاج إلى بصير، واللفظ يحتاج إلى أذن تسمع، أي إلى سميع، فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }. لماذا قدم سبحانه هنا سميعاً على بصير؟ لأن ما يُسمع فيه تعبير واضح. أما النظرة فلا يعرفها إلا من يلاحظ أنه ينظر بحنان وإكبار، وهل وجدت له سبحانه صفة السمع بعد أن وجد ما يسمعه، وهل وجدت له صفة البصر بعد أن وجد ما يبصره؟ أو أن صفة السمع أزلية قديمة قبل أن يخلق خلقاً يسمع منه، وأن صفة البصر أزلية قديمة قبل أن يخلق خلقاً ليبصر أفعالهم؟ إنه سبحانه قديم أزلاً، موجود قبل كل موجود. وصفاته قديمة بقدمه.إذن ففيه فرق بين أن تقول: سميع وبصير، وسامع ومبصر، فأنت تكون سامعاً إذا وجد بالفعل من يٌسْمع، إذن فما معنى كلمة ” سميع “؟ أن يكون المدرِك على صفة يجب أن تدرك المسموع إن وجد المسموع وإن لم يوجد المسموع فهو ليس سامعاً فقط، إنما هو سميع، وكذلك بصير.وأضرب المثل – ولله المثل الأعلى، وهو منزه عن كل تشبيه – الشاعر الذي يقول القصيدة، إنه قبلما يقول القصيدة كان شاعراً في ذاته وقال القصيدة بوجود ملكه الشعر في ذاته. والحق سبحانه وتعالى ” غفَّار ” قبل أن يخلق الخلق، أي أنه على صفة تدرك الأمر إن وجد.. وهو غفار قبل أن يوجد الخلق ويرتكبوا ما يغفره، وهو ” سميع بصير ” أزلاً. أي قبل أن يخلق الخلق الذين سينشأ منهم ما يٌُبْصر وينشأ منهم ما يُسْمع.ويقول الحق بعد ذلك: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ… }

جزء تعليم القراءة والتلاوة

مد منفصل:إِلَىٰ أَهْلِهَا

إدغام بغنة: نِعِمَّا يَعِظُكُمْ

إقلاب:سَمِيعًا بَصِيرًا

مد صلة كبرى:بِهِ ۗ إِنَّ

رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

الحمد الله رب العالميين حمدا كثيرا مباركا فية – اللهم دومها نعمة واحفظها من الزوال امين امين امين يا رب

تفسير سورة النساء الاية 57

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم

تفسير اليوم اية 57

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا

ملخص الاية:

-قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً} ، هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها، ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا، وهم خالدون فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولاً.

-قوله: { وندخلهم ظلاً ظليلاُ} أي ظلاً عميقاً كثيراً غزيراً طيباً أنيقاً، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها – شجرة الخلد) “رواه ابن جرير وأخرجه الشيخان

تتحدث الاية عن :

1-في هذه الآية يصف الحق ثواب الفئة المقابلة للفئة السابقة وهم الذين آمنوا، ونعلم أن آخر موكب من مواكب الرسالة هو رسالة محمد (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم). إذن فأمة سيدنا محمد (محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) هي أقرب الأمم إلى لقاء الله. فالأمم من أيام آدم أخذت زمناً طويلاً، لكننا نحن المسلمين قريبون، ولذلك يقول النبي (محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم):” بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين “. ولذلك لم يقل الحق في الآية: سوف ندخلهم. بل قال: { سَنُدْخِلُهُمْ } ، أما مع الآخرين فاستخدم سبحانه ” سوف ” لأنها بعيدة، أو أن هذا كناية وإشارة من الله لإمهال الكفار ليتوبوا، وعندما يقرب لنا سبحانه المسافة فإنه يغرينا بالطاعة، المسألة ليست بعيدة، بل قريبة؛ لذلك يعبر عنها: { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ }.

2-إن كلمة ” الجنة ” مأخوذة من ” الجَن ” ، والستر، و ” الجَنّة ” هي البستان الذي به شجرة إذا سار فيه الإنسان يستره، وهو غير البساتين الزهرية التي تخرج زهراً قريباً من الأرض تمثل ترفا للعيون فقط، أما الجنة ففيها أشجار عالية كثيفة بحيث لو سار فيها أحد يُستر، ففيها الاقتيات وفيها كل شيء، فهي تسترك عن أن تلتفت إلى غيرها لأن فيها ما يكفيك، فالذي عنده حاجة لا تكفيه يتطلع إلى ما يكفيه، لكن من عنده حاجة تكفيه فقد انستر عن بقية الوجود، والحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة عن شيء هو الآن عنا غيب، وسيصير بإذن الله وبمشيئته مشهداً، ونحن نعرف أن الجنة بها كل ما تتمناه النفس، اللهم ارزقنا الجنة ورسول الله (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم) يقول: قال الله عز وجل:” أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ” مصداق ذلك في كتاب الله { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.ونعلم أن الكائنات الوجودية يعرفها الإنسان بما يناسب إدراكه.. فقال: ” ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ” ، والعين حين ترى تكون محدودة، لكن السمع دائرته أوسع من الرؤية، لأنه سيسمع ممن رأى، إنه سمع فوق ما رأى، إذن فدائرة الإدراكات تأتي أولاً: بأن يرى الإنسان، ثم بأن يسمع، وهو يسمع أكثر مما يرى، وعلى سبيل المثال قد أرى أسوان لكنني أسمع عن أمريكا، فدائرة السماع أوسع.وبعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ” ولا خطر على قلب بشر ” أي أن ما في الجنة أكبر من التخيلات، إذن فكم صفة هنا للجنة؟ الأولى قوله: ما لا عين رأت. والعين مهما رأت فدائرتها محدودة، والثانية: قوله: ولا أذن سمعت فدائرتها أوسع قليلاً.والثالثة: قوله: ولا خطر على قلب بشر، وهذا أوسع من التخيلات، فإذا كنت يا حق سبحانك ستعطينا في الجنة: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فبأي الألفاظ يا ربي تؤدي لنا هذه الأشياء، وألفاظ اللغة إنما وضعت لمعانٍ معروفة، وما دمت ستأتي بحاجة لم ترها عين، ولم تسمعها إذن ولم تخطر على قلب بشر، فأي الألفاظ ستؤدي هذه المعاني؟ لقد أوضح (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم): أنّه لا توجد ألفاظ؛ لأن المعنى يُعرف أولاً ثم يوضع له اللفظ، فكل لفظ وضع في اللغة معروف أن له معنى، لكن ما دامت الجنة هذه لم ترها عين، ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على قلب بشر، فلا توجد كلمات تعبر عنها، لذلك لم يقل (صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم). إن الجنة هكذا بل قال: ” مثل الجنة ” أما الجنة نفسها، فليس في لغتنا ألفاظ تؤدي هذه المعاني، وحيث إن هذه المعاني لا رأتها عين ولا سمعتها أذن ولا خطرت على قلب بشر؛ لذلك فليس في لغة البشر ما يعطينا صورة عن الجنة، وأوضح الحق سبحانه: سأختار أمراً هو أحسن ما عندكم وأعطيكم به مثلاً فقال:
{  مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ }
[محمد: 15].ونحن نرى الأنهار، والحق يطمئننا هنا بأن أنهار الجنة ستختلف فهو سبحانه سينزع منها الصفة التي قد تعكر نهريتها؛ فقد تقف مياه النهر وتصبح آسنة متغيرة، فيقول: { أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ } ، إذن فهو يعطيني اسماً موجودا وهو النهر، وكلنا نعرفه، لكنه يوضح: أنا سأنزع منه الأكدار التي تراها في النهر الحادث في الحياة الدنيا، وأيضاً فأنهار الدنيا تسير وتجري في شق بين شاطئين، لكن أنهار الجنة سترى الماء فيها وليس لها شطوط تحجز الماء لأنها محجوزة بالقدرة.. وستجد أيضاً أنهاراً من لبن لم يتغير طعمه.إن العربي كان يأخذ اللبن من الإبل ويخزنه في القِرَب، وبعد ذلك ترحل الإبل بعيداً إلى المراعي وإلى حيث تسافر، وعندما كان الأعرابي يحتاج إلى اللبن فلم يكن أمامه غير اللبن المخزن في القرب، ويجده متغير الطعم لكنْ لا يجد غيره؛ لذلك يوضح الحق: سأعطيكم أنهاراً من لبن من الجنة لم يتغير طعمه، ثم يقول: ” وأنهار من خمر ” وهم يعرفون الخمر ولنفهم أنها ليست كخمر الدنيا؛ لأنه يقول ” مثل “.. ولم يقل الحقيقة فقال: أنهار من خمر لكنها خمر ” لذة للشاربين ” ، وخمر الدنيا لا يشربها الناس بلذة، بدليل أنك عندما ترى من يشرب كأس خمر.. فهو يسكبه في فمه مرة واحدة! ليس كما تشرب أنت كوباً من مانجو وتتلذذ به، إنه يأخذه دفعة واحدة ليقلل سرعة مروره على مذاقاته لأنه لاذع ومحمض؛ وتغتال العقول وتفسدها. لكن خمر الآخرة لا اغتيال فيها للعقول.إذن فحين يعطيني الحق مثلاً للجنة.. فهو ينفي عن المثل الشوائب، ولذلك نجد الأمثال تتنوع في هذا المجال؛ فالعربي عندما كان يمشي في الهاجرة، ويجد شجرة ” نبق ” ويقال لها: ” سدر ” كان يعتبرها واحة يستريح عندها، ويجد عليها النبق الجميل، فهو يمد يده ليأكل منها لكنّه قد يجد شوكاً فيتفادى الشوك، وفي بعض الأحيان تشكه شوكة، وعندما لا يجد في هذا الشجر شوكا يقول: هنا ” سدر مخضوض ” أي شجرة نبق لا شوك فيها، والحق يأتي بكل الآفات التي في الدنيا وينفيها عن جنة الآخرة.{ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } وكان العرب يأخذون العسل من الجبال فالنحل يصنع خلاياه داخل شقوق الجبال، وعندما كانوا يخرجون العسل من الجبال يجدون فيه رملاً وحصى، فأوضح الحق: ما يعكر عليك العسل هنا في الدنيا أنا أصفيه لك هناك، ومع أنه مثل لكنه يصفيه أيضاً، ولماذا مثَّل؟.. لأنه ما دام نعيم الجنة ” لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ” . فتكون لغة البشر كلها لا تؤدي ما فيها.. لكنه – سبحانه – يعطينا صورة مقربة، ويضرب الله المثل بالصورة المقربة للأشياء التي تتعالى عن الفهم ليقربها من العقل، ومثال ذلك عندما أراد سبحانه أن يعطينا صورة لتنوير الله للكون، وليس لنور الله الذاتي، بل لتنوير الله للكون، فيقول:
{  مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } [النور: 35].
إنه يعطينا مثلاً مقرباً لأن لغتك ليس فيها الألفاظ التي تؤدي الحقيقة، ولذلك يقول:

{  وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ } [التوبة: 100].
وما دامت جنات ففيها شجر ملتف وعالٍ، ونحن نعرف أن الشجر لا بد أن يكون في منطقة فيها مياه؛ لذلك قال: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } لأن ما يجري تحتها قد يكون آتيا من مكان آخر، ويكون منبعها من مكان بعيد وتجري الأنهار تحت جنّتك، وقد تظن أن بإمكان صاحب النبع أن يسدّها على جنتك، فيشرح الحق: لا هي جاءت من تحتها مباشرة.

3-ويقول الحق عن أهل الجنة: { خَالِدِينَ فِيهَآ } وهو سبحانه وتعالى يخاطب قوماً شهدوا بعض النعيم في دنياهم من آثار نعمة عليهم، لكنهم شهدوا أيضاً أن النعمة تزول عن الناس، أو شهدوا أناساً يزولون عن النعمة، فقال سبحانه عن جنة الآخرة: { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } فلا هي تزول عنهم ولا هم يزحزحون عنها.ويعطينا سبحانه أيضاً صورة من النعيم الذي يوجد عندنا في الدنيا لكنه يزول أيضاً أن نزول نحن عنه: { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } وأزواج جمع ” زوج ” ، وعندما يصف الحق سبحانه وتعالى جمعاً فهو يأتي في الصفة بجمع أيضاً مثل قوله:{  وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } [سبأ: 13].
لأن ” قدور ” جمع ” قِدر ” ولم يقل هنا: وأزواج مطهرات وجاء بها مفردة لأن الرجل في الدنيا قد يتزوج بأكثر من واحدة فينشأ بين الزوجات المتعددات ظلال الشقاق فكأنهن متنافرات، فقال: إنهن كلهن سيكنَّ أزواجاً على صورة واحدة من الطهر، وليس في أي منهن ما يعكر صفو الأزواج كما يكون الأمر في الدنيا، ولا يقولن واحد: ” كيف تقبل المرأة أن يكون لها ضرَة في الآخرة؟ ” لأن الحق سبحانه نزع من الصدور كل ما كان يكدر صفو النفوس في الدنيا فقال:{  وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [الأعراف: 43].
إذن فكأنهن – وإن تعددن – في سياق واحد من الطهر مما لا يعكر صفو الزوج، إنّه يعجبك شكلها، ستعجبك، أخلاقها ليس فيها عيب ولا نقص مما كان يوجد في الدنيا إنها مطهرة من ذلك كله. إذن فهو يعطيني خلاصة ما يمكن أن يتصور من النعيم في الأزواج.

4-ويكمل الحق: { وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً }. ولغة العرب إذا أرادت أن تؤكد معنى فهي تأتي بالتوكيد من اللفظ نفسه، فيقول العربي مثلاً: ” هذا ليل أليل ” أي ليل حالك، وعندما يبالغ في ” الظل ” يقول: ” ظليل “. وما هو ” الظل “؟. ” الظل ” هو: انحسار الشمس عن مكان كانت فيه أو لم تدخله الشمس أصلاً كأن يكون الإنسان داخل كهف أو غار مثلاً.إن كلمة ظل ظليل يعرفها الذين يعيشون في الصحراء، فساعة يرى الإنسان هناك شجرة فهو يجلس تحتها ويتمتع بظلها، والظل نفسه قد يكون ظليلاً، مثال ذلك ” الخيام المكيفة ” التي يصنعونها الآن، وتكون من طبقتين: الطبقة الأولى تتعرض للشمس فتتحمل السخونة، والطبقة الثانية تحجز السخونة، ويسمون هذا السقف ” السقف المزدوج “. ويوجد خاصة في الأماكن العالية؛ لأن الشقة على سبيل المثال التي تعلوها أدوار تكون محمية، لكن الشقق الموجودة في آخر دور خصوصاً في البلاد الحارة تكون السخونة فيها صعبة وشديدة؛ لذلك يصنعون سقفاً فوق السقف، وبذلك يكون الظل نفسه في ظل.ولماذا الإنسان يسعد بالظل تحت شجرة أكثر من سعادته بالظل في جدار؟ لأن الظل في جدار مكون من طبقة واحدة، صحيح أنه يمنع عنا الشمس لكنه أيضاً يحجب الهواء، لكن الجلوس في ظل الشجرة يتميز بأن كل ورقة من أوراق الشجرة فوقها ورقة، وأوراقها بعضها فوق بعض، وكل ورقة في ظل الورقة الأعلى. ولأن كل ورقة خفيفة لذلك يداعبها الهواء، فتحجب عن الجالس تحت الشجرة حرارة الشمس، وتعطيه هواء أيضاً، هذا هو معنى قوله: { ظِـلاًّ ظَلِيلاً }.ولذلك فعندما أراد الشاعر أن يصف الروضة قال:

وقانا لفحةَ الرمضاءِ وادٍ     سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا     حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالاً     ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنىّ واجهتنا     فيحجبها ويأذن للنسيم

والشاعر هنا يصف الموقف حين يسير الإنسان في صحراء ثم ينزل في وادٍ به دوح وهذا الدوح يَحنو على الإنسان حنو الأم على طفلها في سن الفطام. وأنه قد سقاهم من مائة ما يلذ. وتصد الشمس عنهم الأشجار الكثيفة ولكن النسيم يمر بين أوراق الشجر. وهكذا نفهم أن كلمة ” ظل ظليل ” ، أي أن الظل في ذاته مظلل.

5-وبعد أن تكلم الحق عن الغايات التي تنتظر الصنفين من خلقه: الصنف الذي يتأبى على منهج الله، والصنف الذي يتطامن لمنهج الله: الصنف الأول أعد له الله النار التي تشوي جلوده ويبدله جلوداً غيرها ليذوق العذاب، والصنف المؤمن الذي أعد الله له الجنة ذات المواصفات المذكورة. وبعدما يجعل الغاية واضحة في ذهننا من الكلام عن النار والكلام عن الجنة يلفتنا إلى حكم جديد؛ لأن النفس تكون كارهة للنار ومحبة للجنة، وعندما يأتي حكم جديد تتعلق النفس به وتنفذه؛ لأنها قريبة العهد، بالترهيب من النار والترغيب في الجنة، فيجعل الحق هذا الأمر مرة تذييلاً لما تقدم، ومرة أخرى يجعله تمهيداً لما يأتي؛ كي تستقبل الأحكام الجديدة في ذهنك وتتضح لك الغاية التي تنتظر مَن التزم، والغاية التي تنتظر من انحرف.
وعندما يأتي الحكم والغاية متضحة في الذهن ومهيئة للإنسان فالتكليف يوضع في بؤرة الشعور؛ لأن هناك حاجات كثيرة تعلمها النفس البشرية، ورحمة الله بالخلق أن هذا الرأس الذي فيه حافظة، وفيه ذاكرة، وفيه مخيلة، لا يقدر أن يستوعب كل المعلومات في بؤرة الشعور مرة واحدة، ولا يمكن أن يجيء لك معنى جديد إلا إذا تزحزح المعنى الذي كنت مشغولاً به في ذهنك قليلاً عن بؤرة الشعور وذهب إلى حاشية الشعور، فإن بقي المعنى في مكان فلن يأتي لك خاطر جديد.إذن فبؤرة الشعور هي التي فيها ما أنت الآن بصدده فلا يمكن أن تتداخل الأفكار في البؤرة الشعورية، ولذلك عندما تريد أن تستدعي حاجة في بؤرة الشعور. فالمعاني تتداعى كي تأتي بما في حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور. وساعة يأتي ما تريده في بؤرة الشعور يذهب الخاطر الأول.إياك أن تظن أن العقل البشري يستطيع أن يواجه في بؤرة الشعور كل المعلومات، لا. فمن رحمة الله أنه وضع لشعورك نظاما تخزن فيه معلوماتك، ولذلك فأنت قد تتذكر حاجة من عشر سنوات، فإذا كانت قد ذهبت من فكرك فكيف تذكرتها؟. إذن فهي موجودة لكنها موجودة في الحواشي البعيدة للشعور.. وعندما تداعت المعاني خرجت الخاطرة أو الحادثة إلى بورة الشعور؛ ثم تؤدي مهمتها وتذهب؛ وتأتي أخرى في بؤرة الشعور.إن هذا البشري فيه قوة وطاقة يختزن فيها الأحداث، وعلى الرغم من ذلك تختلف قدرات الناس، فهناك من يحفظ قصيدة من عشر مرات، وهناك ذهن يحفظ من مرتين، وهناك من يحفظ من ثلاث مرات. إن الذهن كآلة التصوير ” الفوتوجرافي ” يلتقط من مرة واحدة، والمهم فقط أن تكون بؤرة شعورك خالية ساعة الالتقاط. فإن كانت بؤرة شعورك خالية من غيرها تلتقطها.أنت تكرر القصيدة أو الآية أو الكلمة كي تحفظها؛ لأنك لو قدرت أن تجعل بؤرة شعورك مع النص لحفظت النص مباشرة، لكنك لا تحفظ النص؛ لأن هناك خواطر تأتيك فتخطف التركيز، وتكون بؤرة الشعور مشغولة بسواها فلا تستطيع أن تحفظ المعلومة الجديدة، فتكرر الحفظ إلى أن تصادف كل جزئية من جزئيات الشعر أو القصيدة أو الآية خلو بؤرة الشعور؛ لذلك يقولون: هناك طالب يحفظ ببطء، وآخر يحفظ بسرعة، إن الذي يقدر أن يركز ذاكرته لما هو بصدده، فذهنه يلتقط ما يقرأ من مرة واحدة أما الذي لا يركز فإن حفظه يكون بطيئا.وأضرب هذا المثل، وقد يكون أغلبنا مر به، وخصوصاً من تعرض للعلم وللامتحانات: هب أنك طالب في امتحان، وبعد ذلك دق الجرس لتدخل مكان الأمتحان، ثم جاء زميل لك وقال لك: القطعة الفلانية سيأتي منها سؤال، وأنت لم تكن قد ذاكرتها، هنا تخطف أي كتاب وتقرؤها بإمعان، فهل وأنت في هذه الحالة تفكر في ماذا ستأكل على الغداء؟ أو تفكر في من كان معك بالأمس؟ لا؛ لأن الوقت ضيق ولن يتركز فكرك إلا في هذه القطعة التي تقرؤها ثم تدخل الامتحان فتجد سؤالاً في القطعة التي ذاكرتها من دقائق ولمدة قصيرة فتضع الإجابة الصحيحة، وقد لا يعرفها مَن ذاكرها لمدة شهر؛ لأنه ذاكرها وباله مشغول، أما أنت فتضع إجابة السؤال كما يجب لأنك ذاكرتها وليس في ذهنك غيرها؛ لأن الوقت ضيق وكانت بؤرة شعورك محصورة فيها.ومثال آخر: نجد تلميذاً من التلاميذ يشكو من عدم فهمه من أستاذه لكن هناك تلميذ آخر يفهم، والتلميذ الذي لا يفهم هو من انصرف ذهنه عنه في أثناء الشرح في مسألة بعيدة عن العلم الذي يدرسه، وعندما يجيء درس جديد، فهو يفاجأ بمعلومات لا بد أن تستقر وتبني على معلومات سابقة كان ذهنه مشغولاً عنها، فلما شرح المدرس الدرس الجديد، قال التلميذ الذي لا يفهم: ماذا يقول هذا المدرس؟. لكن التلميذ المنتبه له والذي يربط المعلومات بعضها ببعض؛ يفهم ما يقوله المدرس، ولذلك فالأستاذ الجيد لا بد أن يثير الانتباهات دائماً لطلابه، بمعنى أن يفاجئهم، يقول مثلاً كم جملة ثم يقول للتلميذ: قم، ماذا قلت الآن؟ فيجلس كل تلميذ وَهو عُرضة أن يُسأل، فيخاف أن يُحرجه الأستاذ، فينتبه للدرس ويجعل بؤرة شعوره مع المدرس دائماً.فالحق سبحانه وتعالى بعدما تكلم عن النار وعن الجنة وجعل هذا الأمر مستقراً في بؤرة شعورهم ينزل الأحكام بعد ذلك، ولذلك تجد دائماً بعد أن يذكر سبحانه الجنة والنار يأتي بعدها بأمهات الأحكام التي إذا نفذوها نالوا الجنة وابتعدوا عن النار. فبعدما شحنت بؤرة الشعور بالجنة والنار بالغاية المنفرة والغاية المرغبة، هنا يأتي الحكم، فيقول الله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ… }.

جزء تعليم القراءة والتلاوة

مد منفصل:فِيهَا أَبَدًا-فِيهَا أَزْوَاجٌ 

إدغام بغنة:أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ-مُطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ

إدغام كامل:أَبَدًا ۖ لَهُمْ

إخفاء:جَنَّاتٍ تَجْرِي- ظِلًّا ظَلِيلًا 

رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

الحمد الله رب العالميين حمدا كثيرا مباركا فية – اللهم دومها نعمة واحفظها من الزوال امين امين امين يا رب

تفسير سورة النساء الاية 56

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم

تفسير اليوم اية 56

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا

ملخص الاية:

-قال الأعمش عن ابن عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاً أمثال القراطيس، وعن الحسن قوله: { كلما نضجت جلودهم} الآية قال: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة، ثم قيل لهم: عودوا فعادوا، عن ابن عمر قال: قرأ رجل عند عمر هذه الآية: { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} فقال عمر: أعدها عليَّ، فأعادها، فقال معاذ بن جبل: عندي تفسيرها، تبدل في ساعة مائة مرة، فقال عمر: هكذا سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم “رواه ابن أبي حاتم” وقال الربيع بن أنس: مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعاً، وسنّه سبعون ذراعاً، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها، وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا، قال الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذراعاً، وإن ضرسه مثل أحد)

تتحدث الاية عن :

1-و ” نصليهم ” من الاصطلاء، قد يقول قائل: ما دام يصلي النار وكلنا يعرف أن نار الدنيا حين تحرق شيئاً ينتهي إلى عدم، وحين ينتهي إلى عدم إذن فلا يوجد ألم! ونقول: لتنتبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا الأمر { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ }.. إذن فالعذاب ليس كنار الدنيا، لأن نار الدنيا تحرق وتنتهي المسألة، أما نار الآخرة فإنها عذاب سرمدي دائم مكرر { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ }.. فإذا ما حرّقت الجلود فإن جلوداً أخرى ستأتي، أهي عين الأولى أم غيرها؟ وحتى أوضح ذلك: أنت عندما يكون عندك خاتم مثلاً، ثم تقول: أنا صنعت من الخاتم خاتماً آخر، فالمادة واحدة أيضاً، فهل التعذيب للجلود أو للأعضاء؟ إن العذاب دائماً للنفس الواعية، بدليل أن الإنسان قد يصيبه ورم فيه بعض الصديد ” دُمّل ” يتعبه ولا يقدر على ألمه.. وبعد ذلك يغفل فينام، بمجرد أن ينام فلا ألم. لكن عندما يستيقظ يتألم من جديد.إن فالألم ليس للعضو بل للنفس الواعية، بدليل أننا عندما ارتقينا في الطب، قلنا إن النفس الواعية نستطيع أن نخدرها بحيث يحدث الألم ولا تشعر به، ويفتح ” الدُّمل ” بالمشرط ولا يحس صاحبه بأي ألم. وهكذا تجد أن الجلود والأعضاء ليس لها شأن بالعذاب، إنما هي موصلة للمعذب، والمعذَّب هي النفس الواعية.. بدليل أنها ستشهد علينا يوم القيامة.. تشهد الجلود والجوارح، وستكون آلة لتوصيل العذاب.. ومسرورة لأنها توصل لهم العذاب.إنه نظام إلهي فلا تتعجبوا من القرآن، فإن العلم كلّما تقدم هدانا إلى شيء من آيات الله تعالى في الكون. أنتم – الآن – تخدرون النفس الواعية وتشقُّون الجسد بالمشارط كما يحلو لكم فلا يحدث له ألم، وعرفتم أن الألم ليس للعضو، إنما الألم للنفس الواعية، إذن فكل الجوارح هي آلات توصِّل الألم للنفس الواعية، وتكون مسرورة؛ لأن النفس الواعية تعذب، هذه يشبهونها – مثلا – بواحد عنده ” حكة ” في جلده، فيهرش، والهرش يسيل دمه فيكون مستلذاً.إذن فقوله: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } أي أن الجلود تبدل وتنشأ جلود أخرى من نفس مادتها توصل العذاب للنفس الواعية، وهكذا.

2-{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ }. ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى أنزل كتاباً هو القرآن، وجعله معجزة ومنهجا، وهذه هي الميزة التي امتاز بها الإسلام. فمنهج الإسلام هو عين المعجزة، وكل رسول من الرسل كان منهجه شيئاً ومعجزته كانت شيئا آخر.إن سيدنا موسى علية السلام منهجه التوارة ومعجزته: العصا، وسيدنا عيسى علية السلام منهجه: الإنجيل، ومعجزته: إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، لكن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم كانت القرآن؛ لأن دينه سيكون الامتداد النهائي لآخر الدنيا، ولذلك جعل الله منهجه هو عين معجزته، لتكون المعجزة دليلاً على صدق المنهج في أي وقت، ولا يستطيع واحد من أتباع أي نبي سابق على رسول الله أن يقول: إن معجزة الرسول الذي أتبعه هي منهجه؛ لأن معجزات الرسل السابقين على رسول الله كانت عمليات كونية انتهت مثل عود كبريت احترق، فمن رآه رآه وانتهى، لكن المسلم يستطيع أن يقف ويعلن بملء فيه: إنَّ سيدنا محمداً رسول الله  (صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم )وصادق، وتلك معجزته.فمعجزة سيدنا محمد (صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ) باقية بقاءً أبدياً، ومتصلة به أبداً. أما معجزة كل رسول سبق رسول الله (صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ) فقد آدت مهمتها لمن رآها وانتهت، وانفصلت معجزة كل رسول سابق على رسول الله عن منهجه.والمنهج القرآني فيه أحكام، والأحكام معناها؛ افعل كذا، ولا تفعل كذا. وهي واضحة كل الوضوح منذ أن أنزل الله القرآن على رسوله (صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم )وحتى تقوم الساعة. ومن فعل مطلوب الأحكام يثاب، ومن لم يفعله يعاقب. وكل الناس سواسية في مطلوب الأحكام إلى أن تقوم الساعة.أما الآيات الله الكونية التي لا تتأثر.. فأي فائدة للإنسان إن عرفها أو لم يعرفها: فقد طمرها الله وسترها في القرآن مع إشارة إليها، لأن العقل المعاصر لنزول الكتاب لم يكن قادرا على استيعابها في زمن الرسالة. ولو أن القرآن جاء بآية واضحة تقول: إن الأرض كروية وتدور، بالله ماذا كان المعاصرون لرسول الله (صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم )يقولون؟ إن بعضاً من البشر الآن يكذبون ذلك، فما بالنا بالبشر المعاصرون لرسول الله (صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ) الذين لو قال لهم رسول الله (صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم )ذلك لانصرفوا عن اتباع ما جاء به.لقد كانوا يستفيدون من كروية الأرض، مثلما يستفيد منها الفلاح أو البدوي، ومثلما يستفيد الناس الآن الذين لم يدرسوا الكهرباء برؤية التليفزيون وضوء المصباح الكهربائي وغير ذلك من الاستخدامات، دون معرفة علمية بتفاصيل ذلك، إنّ الشمس تسطع على الدنيا فيتبخر الماء من الأنهار والمحيطات والبحار ليصير سحاباً، ثم ينزل المطر من السحاب. وكل هذه الآيات الكونية لم يعط الله أسرارها إلا بقدر ما تتسع العقول، وترك في كتابه ما يدل على ما يمكن أن تنتهي إليه العقول الطموحة بالبحث العلمي.وعندما نتعرف نحن – المسلمين – على اكتشاف علمي جديد في الكون، نقول: إن القرآن قد أشار له، لكن قبل ذلك لا يصح أن نقول ذلك حتى لا يكذب الناس هذا الكتاب المعجز، فسبحانه القائل:{  بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس: 39].
لو أن القرآن قال: إن كل شيء في الوجود يتكاثر، وفيه موجب وفيه سالب، ذكر وأنثى، أكانوا يصدقون ذلك؟.لا؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الذكر والأنثى إلا في الرجل والمرأة، ويعرفون ذلك في الحيوانات؛ وأيضاً في بعض النباتات مثل النخل، لكن هناك نباتات كثيرة لا يعرفون حكاية التكاثر فيها، ومثال ذلك القمح الذي نزرعه ونأكله، وكذلك الذرة، لم يكونوا عارفين بأن عنصر الذكورة يوجد في ” الشواشي ” العليا في كوز الذرة وأن الهواء يضرب تلك الشواشي فتنزل منها حبوب اللقاح فيخرج الحب، ولذلك نجد الزّارع الذكي هو الذي يفتح ” كوز الذرة ” من أعلاه قليلاً حتى يتيح لحبوب اللقاح أن تصل إلى موقعها. وقد يفتح الفلاح أحد ” كيزان الذرة ” فيجد حبة ميتة وسط الحبوب المتراصة ويكشف أنها حبة ليس لها خيط أي لم تتصل بحبوب اللقاح وهو ما يقولون عنه في الريف ” سنة عجوز “.إذن فكل تكاثر له ذكورة وأنوثة، ولذلك يقول ربنا:{  سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }

[يس: 36].
وكنا نعرف الأزواج في الأنفس، ثم عرفناها في النبات، وجاء الحق بـ { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } لِتُدخل كل شيء، وتكشف الموجب والسالب في الكهرباء، وصرنا نعرف أن كل كائن فيه ذكر وأنثى، وكلما تقدم العلم فهو يشرح الآيات الكونية.ومن رحمة الحق سبحانه بعقول الأمة المكلَّفة برسالة سيدنا محمد(صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ) لم يشأ أن يجعل نواميسه في الكون واضحة صريحة حتى لا تقف العقول فيها وتعجز عن فهمها، وخاصة أن الكتاب واجه أمّة أمّيَّة؛ ليست لها ثقافة. وهب أنه واجه العالم المعاصر، إن هناك قضايا في الكون لا يعلمها العالم المعاصر، فلو أن القرآن تعرض لها بصراحة لكانت سبباً من الأسباب التي تصرف الناس عن الكتاب. والقرآن جاء كتاب منهج، والمعجزة أمر جاء لتأييد المنهج، فلم يشأ أن يجعل من المعجزة ما يعوق عن المنهج، لكنه ترك في الكون طموحات للعقل المخلوق لله والمادة الكونية المخلوقة لله، وكل يوم يكتشف العقل البشري أشياء، وهذا الاكتشاف لا يأتي من فراغ، بل يأتي من أشياء موجودة.إذن فلو رددت أدق أقضية العلم التي يصل إليها العقل المعاصر، ونسبتها في الكون لرجعت إلى الأمر البديهي. فلا يوجد صاحب عقل ابتكر أو جاء بحاجة جديدة، إنما هو أعمل عقله في موجود فاستنبط من مقدمات الموجود قضية معدومة، ثم أصبحت القضية المعدومة مقدمة معلومة ليستنبط منها من يجيء بعد ذلك. ولذلك فالعلماء عادة قوم يغلبهم طابع التهذيب عندما يقولون: اكتشفنا الأمر الفلاني، يعني كأنه كان موجوداً.إن الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا فكرة تقرب لنا الفهم، فنحن عندما كنا نتعلم الهندسة مثلاً؛ عرفنا أن الهندسة مكونة من نظريات، تبدأ من نظرية ” واحد ” ، وتنتهي إلى ما لا نهاية، وحين جاء لنا مدرس ليبرهن لنا على نظرية ” مائة ” ، استخدم في البرهان على ذلك النظرية التسع والتسعين، وعندما كان يبرهن على النظرية ” التسع والتسعين ” استعمل ما قبلها.إذن فكل برهان على نظرية يستند إلى ما قبلها، والعقل الواعي المفكر المستنبط هو الذي يرتب المقدمات ويستخلص منها النتائج. وكل شيء في الكون يشترك فيه كل الناس. لكن العقل الذي يرتب ويستنبط يخيل إليه وإلى الناس أنه جاء بجديد، وهو لم يأت بجديد. بل ولَّد من الموجود جديداً، مثال ذلك الطفل عندما يولد من أبويه، هل هما جاءا به من عدم؟ لا، بل جاء الولد من تزاوج، وعندما نسلسل الأمر نصل إلى آدم، فمن الذي جاء بآدم؟. إنه الله.إذن فالبديهيات التي في الكون هي خميرة كل علم تقدمي وهي من صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعاً، وكل نظرية مهما كانت معقدة في الكون منشؤها من الأمر البديهي، مثال ذلك البخار؛ عندما اكتشفوه وقبل أن يسيروا به الآلات ماذا حدث؟. كان هناك من يجلس فالتفت فوجد الإناء الذي به الماء يغلي ثم وجد غطاء الإناء يرتفع وينخفض، وعندما تعرف على السرّ، اكتشف أن كل بخار يستطيع أن يعطي. قوة دافعة، وبذلك بدأ عصر البخار. إذن فهو ذكي، وقد أخذ اكتشافه من بديهية موجودة في الكون، فإياك أن تغتر وتقول: إن العقل هو الذي اخترع، ولكن العقل عمل بالجهد في مطمورات الله في الوجود، ورتب ورتب ثم أخرج الاكتشاف.

3-لذلك فعندما يبتكر العقل البشري شيئاً جديداً نقول له: أنت لم تبتكر، بل اكتشفت فقط، والحق سبحانه وتعالى يترك هذه العملية في الوجود. ويقول:
{  سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت: 53].
والبشرية عندما تكتشف شيئاً جديداً، نقول لهم: القرآن مسّها وجاء بها، فيقولون: عجباً هل فعل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرناً، على الرغم من أنه نزل ليخاطب أمة أمية، وجاء على لسان رسول أميّ (صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم ). ونقول: نعم.والآية التي نحن بصددها فيها هذا:
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [النساء: 56].
والجلود والأحاسيس شرحناها من قبل، ونظرية ” الحسّ ” – كما نعرف – شغلت العلماء الماديين، وأرادوا أن يعرفوا كيف نحسّ؟ منهم من قال: نحن نحسّ بالمخ. نقول لهم: لكن هناك مسائل لا تصل للمخ ونحس بها، بدليل أنه عندما يأتي واحد أمام عيني ويوجه أصبعه ليفتحها ويثقبها يصل أصبعه أغلق عيني أي أن شيئاً لم يصل للمخ حتى أحسّ. وبعض العلماء قال: إن الإحساس يتم عن طريق النخاع الشوكي والحركة العكسية، ثم انتهوا إلى أن الإحساس إنما ينشأ بشعيرات حسية منبطحة مع الجلد؛ بدليل أنك عندما تأخذ حقنة في العضل، فالحقنة فيها إبرة، ويكون الألم مثل لدغة البرغوث يحدث بمجرد ما تنفذ الإبرة من الجلد، وبعد ذلك لا تحس.إذن فمركز الإحساس في الإنسان هو الشعيرات الحسية المنبطحة على الجلد، بدليل أن ربنا أوضح: أنه عندما يحترق الجلد يمتنع الإحساس، فأنا أبدل لهم الجلد ليستمر الإحساس: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي صارت محترقة احتراقاً تاما وتعطلت عن الإحساس بالألم، آتيهم بجلد آخر لأديم عليهم العذاب؛ لأنه هو الذي سيوصل للنفس الواعية فتتألم، إذن فالآية مسّت قضية علمية معملية، لو أن القرآن تعرض لها بصراحة وجاء بصورة في الإحساس تقول: يا بني آدم محلّ الإحساس عندكم الجلد، لما فهموا شيئاً. لكنه تركها لتنضج في العقول على مهل.{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ }. فتكون علّة التبديل للجلود التي أحرقت بجلود جديدة كي يدوم العذاب

4-ويذيل الحق الآية: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } والعزيز: هو الذي لا يُغلب ولا تَقدر أن تحتاط من أنه يهزمك أبداً، فقد يقول كافر: لقد تلذذنا بالمعصية مرة لمدة خمس دقائق، ومرة لمدة ساعتين فيما يضيرني أن يحترق جلدي وتنتهي المسألة!! نقول له: لا إن الذي يعذبك لا يُغلب فسوف يديم عليك العذاب بأن يبدل لك الجلد بجلد آخر، وسبحانه حكيم. فالمسألة ليست مسألة جبروت يستعمله، لا. هو يستعمل جبروته بعدالة.وبعد أن جاء بالعذاب أو بالجزاء المناسب لمن رفضوا الإيمان، لم ينس المقابل؛ لكي يكون البيان للغايتين: غاية الملتزم وغاية المنحرف. ولذلك يقول الحق بعد ذلك: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ… }.

جزء تعليم القراءة والتلاوة

إظهار:جُلُودًا غَيْرَهَا-عَزِيزًا حَكِيمًا 

إخفاء:نَارًا كُلَّمَا

رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

الحمد الله رب العالميين حمدا كثيرا مباركا فية – اللهم دومها نعمة واحفظها من الزوال امين امين امين يا رب

تفسير سورة النساء الاية 55

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم

تفسير اليوم اية 55

فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا

ملخص الاية:

” عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: ” انظر ما تقول؛ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغوْن فيها فقال: ” يا حارث عرفت فالزم، ثلاثا “.

تتحدث الاية عن :

1-وقوله سبحانه وتعالى : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ }. والمقصود الإيمان بما جاء في منهج سيدنا إبراهيم علية الصلاة والسلام والرسل الذين جاءوا من بعده الذين آتاهم الله النبوة والملك، أو ” منهم ” أي من أهل الكتاب الذين نتكلم عنه من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار مثلاً، { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } أي أن منهم من كفر بمنهج الله؛ لذلك يقول سبحانه بعدها: { وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } فكأن نتيجة الصدّ عن المنهج أنّه لا يأتي بعده إلا العذاب بجهنم ليصلوا بنارها، وتكون مسعرة عليهم جزاءً على ما فعلوا.

2-وبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى موكب الرسل حينما أرسله الله على تتابع في كونه، جاء ليذكر الناس بالمنهج، فالمنهج هو الأصل الأصيل في مهمة آدم وذريته؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال:
{  فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } [طه: 123].
وينقل آدم إلى ذريته معلوماته عن حركة الحياة وعن الحق وعن المنهج. إلا أن الله قدّر الغفلة في خلقه عن منهجه؛ فهذه المناهج تأتي دائماً ضد شهوات النفس الحمقاء العاجلة، لكن لو نظرت إلى حقيقة المنهج الإلهي فأنت تجده يعطي النفس شهوات لكنها مُعلاة.مثال ذلك عندما يقول:

{  وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر: 9].
وكل واحد عنده أشياء ويحتاج إليها، لكنه يجد أخاه المؤمن يحتاج إليها أكثر منه فيؤثره على نفسه، أهو يفضله عن نفسه؟ لا؛ لكنه يعطي هذا الشيء القليل في الفانية كي يأخذه في الباقية، فأخذ شهوة نفسه لكن بشهوة معلاة، والذي قلنا له: غض طرفك عن محارم غيرك. ظاهر هذا الأمر أننا نحجبه عن شهوة يشتهيها، لكننا ساعة نحجبك عن شهوة تشتهيها في حرام الفانية، نريد أن نحقق لك شهوة في حلال الخالدة. فأيهما أعشق للجَمَالِ؟ الذي ينظر بتفحص للمرأة الجميلة وهي تسير، أم الذي الذي يغض عينه عنها؟ الأعشق للجمال هو الذي غض بصره.إن الدين لم يأت إلا ضد النفس الحمقاء التي تريد عاجل الأمر وإن كان تافهاً. ويوضح له: كن للآجل ومعه؛ لأنه يبقى فلا يتركك ولا تتركه، أما أي شهوة تأخذها في هذه الدنيا فإما أن تتركها وإما أن تتركك، لكن في الآخرة لا تتركها ولا تتركك.لقد عرف الصالحون الورعون كيف يستفيدون، لكنّ الآخرين هم الحمقى الذين لم يستفيدوا، فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الحسرة تكون لمن أراح نفسه بشهوة عاجلة ثم أعقبها العذاب الآجل المقيم، فهذه هي الخيبة الحقة، فالدنيا دار الأغيار، يأتي للإنسان فيها ما يؤلمه وما يسره، وليس فيها دوام حال أبداً؛ لأنها دنيا الأغيار، وما دامت دنيا الأغيار فيكون كل شيء فيها متغيراً.. وما دام كل شيء فيها متغيراً. إذن فالذي في نعمة قد يصيبه شيء من الضر، والذي في قوة قد يصيبه شيء من الضعف، والذي في ضعف قد تأتيه قوة، وإلا لو ظل الضعيف ضعيفاً وظل القوى قوياً لما كانت الدنيا أغياراً.ولذلك يقولون: احذر أن تريد من الله أن يتم عليك نعمته كلها؛ لأنها لو تمت لك النعمة كلها وأنت في دار الأغيار فانتظر الموت؛ فتمام النعمة هو صعود لأعلى منطقة في الجبل وأنت في دار الأغيار، فهل تظل على القمة؟ لا، بل لا بد أن تنزل، فإياك أن تُسرَّ عندما تبلغ المسألة ذروتها؛ لأنه سبحانه وتعالى يوضح: إنكم لا بد أن تأخذوا هذه الدنيا على أنها معبر، والذي يتعب الناس أنهم لا يحددون الغاية البعيدة، بل إنهم يحددون الغايات القريبة.

3-إن من حمق بعض الناس أن يحزن الواحد منهم على فراق حبيب أو قريب له، وخذها بالمنطق: ما غايتنا جميعاً؟ إنها الموت ونعود إلى خالقنا. وهل عندما نعود إلى خالقنا نحزن؟ لا، بل يجب أن نسر؛ لأننا في الدنيا مع الأسباب، أما بعد أن ننتقل إلى الآخرة فنكون مع المسبب. ففي الدنيا تكون مع النعمة وستصبح بعد ذلك مع المنعم، فما يحزنك في هذا؟ إن هذا يحزنك ساعة أن كنت مع النعمة ولم تُراع المنعم، لكن لو كنت مع النعمة وراعيت المنعمَ لسررت أنك ذاهب للمنعم.وإن كانت المسألة هي أن تصل إلى المنعم الحق ونكون في حضانته فلماذا الحزن إذن؟ ومن الحمق أن بعض الناس لا تعامل الحق سبحانه وتعالى كما يعاملون أنفسهم.هب أن إنساناً من غايته أن يخرج من أسوان إلى القاهرة، إذن فالقاهرة هي الغاية. ثم جاء واحد وقال له: سنذهب سيراً على الأقدام، وقال الآخر: أنا سآتي بمطايا حسنة نركبها. وقال ثالث: سآتي بعربة، وقال رابع: سنسافر بطائرة وقال خامس. سنسافر بصاروخ، إذن فكل وسيلة تقرب من الغاية تكون محمودة، وما دامت غايتنا أن نعود إلى الحق فلماذا نحزن عندما يموت واحد منا؟ أنت – إذن – تحزن على نفسك ولا تحزن على من مات، إن الذي يموت بعد أن يرعى حق الله في الدنيا يكون مسروراً لأنه في حضانة الحق ومع المنعم، وأنت مع النعمة الموقوتة إنّه يسخر منك لأنك حزنت، ويقول: انظر إلى الساذج الغافل، كان يريدني أن أبقى مع الأسباب وأترك المسبب!إننا نجد الذين يحزنون على أحبائهم لا يرونهم في المنام أبداً؛ لأن الميت لا تأتي روحه لزيارة من حزن لأنه ذهب إلى المنعم، وعلى الناس أن تدرك الغاية من الوجود بأن تكون مع أسباب الحق في الدنيا ثم تصير مع الحق، والموت هو النقلة التي تنقلك من الأسباب إلى المسبب، فما الذي يحزنك في هذا؟نحن نقصِّر عليك المسافة.. فبدلاً من أن تقابلك عقبات الطريق، وقد تنجح أو لا تنجح، وبعضهم يقول: مات وهو صغير ولم ير الدنيا، نقول لهم: وهل هذه تكون خيراً له أو لا؟ أنت مثلاً كبرت وقد تكون مقترفاً للمعاصي؛ فلعل الله أخذ الصغير حتى لا يعرضه للتجربة، ضع المسألة أمامك واجعلها حقيقة.” عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: ” انظر ما تقول؛ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغوْن فيها فقال: ” يا حارث عرفت فالزم، ثلاثا “. ولنا العبرة في سيدنا حذيفة – رضي الله عنه – حينما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: كيف أصبحت؟ أي كيف حالك الإيماني؟ قال حذيفة: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها – أي أن الذهب تساوي مع الحصى، هذه هي مسألة الدنيا – وأضاف حذيفة: وكأني أنظر أهل الجنة في الجنة ينعمون، وإلى أهل النار في النار يعذبون.وساعة لا تغيب عن بال سيدنا الحارث صورة الآخرة، فهو يسير في الحياة مستقيماً.. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم : ” عرفت فالزم “. الحق سبحانه وتعالى حين يذكر لنا بعض الأحكام يذكر لنا أيضاً خبر بعض الناس الذين يتمردون على الأحكام، ثم يذكرنا بحكاية الجنة والنار؛ ولذلك يقول لنا: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ… }.

جزء تعليم القراءة والتلاوة

مد صلة : بِهِ وَمِنْهُمْ

 

رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

الحمد الله رب العالميين حمدا كثيرا مباركا فية – اللهم دومها نعمة واحفظها من الزوال امين امين امين يا رب

تفسير سورة النساء الاية 54

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم

تفسير اليوم اية 54

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا

ملخص الاية:

الحسد  هو أن تتمنى زوال نعمة غيرك، ويقابله ” الغبطة ” وهي أن تتمنى مثل ما لغيرك، فغيرك يظل بنعمة الله عليه، ولكنك تريد مثلها

-عندما تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فأنت تتذكر أن الإنسان لم يعط نفسه أي نعمة. إنما ربنا هو الذي أعطاه، وسبحانه قادر على كل عطاء، ومن الممكن أن يحسد الإنسان. لكن الذي يجد الحسد في نفسه ويريد أن يطفئه، عليه أن يردّ كل شيء إلى الله، وما دام قد ردّ كل شيء إلى الله فقد عمل وقاية لنفسه من أن يكون حاسداً. ووقاية للنعمة عند غيره من أن تكون محسودة

فإذا جاءت مصيبة لأي واحد وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم إنك ربي وإنك لا تحب لي إلاّ الخير لأني صنعتك ولم تجر عليّ إلاّ الخير.. لكنني قد لا أستطيع أن أفهم ذلك الخير.

تتحدث الاية عن :

1-والحسد هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم؛ لأن ربنا قد اصطفاه واختاره للرسالة،ولذلك قال بعض منهم:{  لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].إذن فالقرآن مقبول في نظرهم، لكن الذي يحزنهم أنه نزل على محمدصلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم؛ وهذا من تغفيلهم، وهو مثل تغفيل من قالوا:
{  ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [الأنفال: 32].
لقد تمنوا الموت والقتل رميا بالحجارة من السماء ولم يتمنوا اتباع الحق، وهذا قمة التغفيل الدال على أنها عصبية مجنونة، ولذلك يقول الحق:

{  أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ } [الزخرف: 32].
وسبحانه يؤكد لنا أنه يختص برحمته من يشاء، فلماذا الحسد إذن؟ إنهم يحسدون الناس أن جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم؛، ولو أنهم استقبلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم؛ استقبالاً عادلاً بعين الإنصاف لوجدوا أن كل ما جاء به هو كلام جميل. من يتبعه تتجمل به حياته. وكان مقتضي من آتاهم الله من فضله علماً من الكتاب أن يبشروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم؛ كما دعاهم إلى ذلك نزل عليهم في كتابهم وأن يكونوا أول المصدقين به، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل كذبوا وصدوا عن سبيله وَفَضَّلوا عليه الكافرين الوثنيين. فقالوا إنهم أهدى من محمد سبيلاً.والحق سبحانه وتعالى حين يتفضل على بعض خلقه بخصوصيات يحب سبحانه أن تتعدى الخصوصيات إلى خلق الله؛ لأننا نعرف أن في كل خلق من خلق الله خصوصية مواهب، فإذا ما تفضل المتفضل بموهبته على الخلق تفضل بقية الخلق عليه بمواهبهم، إذن فقد أخذ مواهب الجميع حين يعطي الجميع.وهؤلاء قوم آتاهم الله نصيباً فبخلوا وضنّوا، وليتهم ضنّوا على أمر يتعلق بهم، بل على الأمر الذي وصلهم بالإله، وهو أنهم أصحاب كتاب عرفوا عن الله منهجه، وعرفوا عن الله ترتيب مواكب رسله، فيريد الحق سبحانه أن يقول لهم: أنتم أوتيتم نصيباً من الكتاب فلم تؤدوا حقه، وأيضاً أنكم لو ملكتم الملك فإنكم لن تؤدوا حقه، ولن تعطوا أحداً مقدار نقير وهو النقرة على ظهر النواة،

2-ولذلك قال:{  أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً } [النساء: 53].
إذن فلا هم في المعنويات والقيم معطون، ولا هم في الماديات معطون. فإذا كانوا قد بخلوا بما عندهم من القيم فهم أولى أن يبلخوا بما عندهم من المادة، وبذلك صاروا قوماً لا خير فيهم أبداً.ثم يوضح الحق: إذا كان هؤلاء قد أوتوا نصيباً من الكتاب يعرِّفهم سمات الرسول المقبل الخاتم صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم؛فما الذي منعهم أن يؤمنوا به أولاً ويؤيدوه؟. لا شك أنه الحسد، على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم؛ جاء مصدقاً لما معهم، إنهم لا شك حسدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبة وسلم؛، والحسد لا يتأتى إلا عن قلب حاقد، قلب متمرد على قسمة الله في خلقه؛ لأن الحسد كما قالوا: هو أن تتمنى زوال نعمة غيرك، ويقابله ” الغبطة ” وهي أن تتمنى مثل ما لغيرك، فغيرك يظل بنعمة الله عليه، ولكنك تريد مثلها.وأنت إن أردت مثلها من الله فلا بد أن تغبطه، والحق يقول:{  مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } [النحل: 96].
ولذلك يجب أن يكون الناس في عطاء الله غير حاسدين وغير حاقدين. لكن بعض الناس ربما حسدوا غيرهم من الذين يعطيهم الأغنياء رغبة في أن يكون ذلك لهم وحدهم فإنك إن كان عندك كَمٌّ من المال ثم اتصل بك قوم في حاجة فأعطيتهم منه، ربما قال الآخرون ممن يرغبون في عطائك ويأملون في خيرك: إنك ستنقص مما عندك بقدر ما تُعطي هؤلاء؛ لأن ما عندك محدود، ولكن هنا العطاء ممن لا ينفد ما عنده، إذن فيعطيك ويعطي الآخرين ولا ينقص مما عنده شيء.إذن فالغبطة أمر بديهي عند المؤمن؛ لأنه يعلم أن عطاء الله لواحد لا يمنع أن يعطي الآخر، ولو أعطي سبحانه كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخْيط إذا غمس في البحر، وذلك كما جاء في الحديث القدسي: ” يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخْيط إذا أدخل البحر “.

3-{ أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ } ، فالحسد – كما عرفنا – هو: أن يتمنى إنسان زوال نعمة غيره، هذا التمني معناه أنك تكره أن تكون عند غيرك نعمة، ولا تكره أن يكون عند غيرك نعمة إلا إذا كنت متمرداً على من يعطي النعم.إن أول خطأ يقع فيه الحاسد هو: ردّه لقدر الله في خلق الله، وثاني ما يصيبه أنه قبل أن ينال المحسود بشرّ منه؛ فقلبه يحترق حقداً. ولذلك قالوا: الحسد هو الذنب أو الجريمة التي تسبقها عقوبتها؛ لأن كل جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحسد، فقبل أن يرتكب الحاسد الحسد تناله العقوبة؛ لأن الحقد يحرق لبه وربما قال قائل: وما ذنب المحسود؟.. ونقول: إن الله جعل في بعض خلقه داء يصيب الناس، والحسد يصيبهم في نعمهم وفي عافيتهم. وما ذنب المقتول حين يوجه القاتل مسدسه ليقتله به؟ هذه مثل تلك. فالمسدس نعمة من نعم الله عند إنسان ليحمي نفسه به، وليس له أن يستعمله في باطل.وهب أن الله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان شيئاً يكره النعمة عند غيره، فلماذا لا يتذكر الإنسان حين يستقبل نعمة عند غيرك أن يقرنها بقوله: (ما شاء الله لا قوة إلا الله).فلو قارنت كل نعمة عند غيرك بما شاء الله الذي لا قوة إلا به لرددت عن قلبك سم حقدك. إنك ساعة ترى نعمة عند غيرك وتقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فأنت تتذكر أن الإنسان لم يعط نفسه أي نعمة. إنما ربنا هو الذي أعطاه، وسبحانه قادر على كل عطاء، ومن الممكن أن يحسد الإنسان. لكن الذي يجد الحسد في نفسه ويريد أن يطفئه، عليه أن يردّ كل شيء إلى الله، وما دام قد ردّ كل شيء إلى الله فقد عمل وقاية لنفسه من أن يكون حاسداً. ووقاية للنعمة عند غيره من أن تكون محسودة،والحق سبحانه وتعالى بين لنا ذلك في قوله سبحانه:{  وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [الفلق: 5].إذن فمن الممكن أن يمتلئ قلب أي واحد منا بالحقد على نعمة وبعد ذلك يحدث منها حسد، وعلى كل واحد منا أن يمنع نفسه من أن يدخل تيار الحقد على قلبه؛ لأن تيار الحقد يحدث تغييراً كيماوياً في تكوين الإنسان، وهذا التغيُّر الكيماوي هو الذي يسبب التعب للإنسان، وما يدرينا أن هذا التوتر الكيماوي من النعمة عند غيره تجعل في نفس الإنسان وفي مادته تفاعلات، وهذه التفاعلات يخرج منها إشعاع يذهب للمحسود فيقتله؟ لأن الحق سبحاه وتعالى يقول:{  وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [الفلق: 5].
وعندما تستعيذ بالله من شر الحاسد ألاّ يصيبك، قد يصيبك، ولكن استعاذتك من شره تعني أنه إن أصابك فعليك أن تسترجع، فتقول: ” إنا لله وإنا إليه راجعون ” وتعلم أن ذلك خير لك؛ فإن أصابك في نعمة فاعلم أن هذه المصيبة فيها خير، فالحاسد إذا أصابك في شيء من نعم الله عليك، فالشر هو أن تحرم الثواب عليها!!.. فالمصاب هو من حرم الثواب، فإذا جاءت مصيبة لأي واحد وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم إنك ربي وإنك لا تحب لي إلاّ الخير لأني صنعتك ولم تجر عليّ إلاّ الخير.. لكنني قد لا أستطيع أن أفهم ذلك الخير.إن المسلم إذا صنع ذلك فالله سبحانه وتعالى يبين له فيما بعد أنها كانت خيراً له، فإن أصابه في ولده وقال: من يدريني لعل ولدي الذي أماته الله كان سيفتنني فأكفر أو أسرق له وآخذ رشوة من أجله. لكن الله أخذه مني ومنع عني ذلك الشرّ، أو أن النعمة قد تطغيني، وقد تجعلني أتجبر على الناس، وقد تجعلني أتطاول وأعتدي على الخلق، فيقول لي ربنا: امرض قليلا واهدأ. وهكذا نرى أن المصاب لا بد أن يتوقع الخير وأن يسترجع وأن يقول: لا بد أنه سيأتيني من الابتلاء خير،

4-وقد يقول قائل: نحن نقول:
{  قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [الفلق: 1-5].
نقرأ ونكرر هذه السورة ولم يعذنا الله من شرّ الحاسدين. ويحسدنا الحاسدون أيضاً!نقول له: أنت لم تفهم معنى قوله: { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }. إنك تفهمه على أساس ألا يصيبك حسده، لا.. إن حسده قد يصيبك، لكن عليك أن تعرف قدر الله في تلك الإصابة وتقول: يا رب إنك أجريتها عليّ لخير عندك لي. فإن فعلتَ ذلك فقد كفيت شرّاً.ونحن نعيش في عالم نرى فيه أنه كلما ارتقت الدنيا في العلم بيّن لنا ربنا آيات في كونه وفي أسرار الوجود تقرب لنا كثيراً من المعاني؛ فالذين يصنعون الآن أسلحة الفتك والتدمير، كلما يلطف السلاح ويدق ولا يكون داخلاً تحت مرائي البصر، كان عنيفاً ويختلف عن أسلحة الأزمنة القديمة حيث كان الإنسان يرمي آخر بحجر، ثم آخر يرمي بمسدس، ثم صار في قدرة دولة أن تصنع قنبلة ذرية لا ينوب أي فرد منها إلا قدر رأس مسمار لكنها تقتل، إذن فأسلحة الفتك كلما لطفت – أي دقت – عنفت. ونرى الآن أن الأسلحة كلها بالإشعاع، والإشعاع ليس جِرْماً، وعمل الإشعاع نافذ لكن لا يوجد له جرم، وكما يقول الأطباء: نجري العملية من غير أن نسيل دماً بوساطة الأشعة، ومثال ذلك أشعة الليزر، إذن فكلما دقّ السلاح كان عنيفا وفتاكاً.وهذا مثال يوضح ذلك: لنفرض أنك أردت أن تبني لك قصراً في خلاء، ثم مرّ عليك صديق فقال: لماذا لم تضع لنوافذ الدور الأول حديداً؟ تقول له: لماذا؟. فيقول لك: هنا سباع وذئاب. فتضع الحديد ليمنع الذئاب، وآخر يمرّ على قصرك فيقول: إن فتحات الحديد واسعة وهنا توجد ثعابين كثيرة، فتضيق الحديد. وثالث يقول: هناك بعوض يلسع ويحمل الميكروبات. فتضع سلكاً على النوافذ.إذن فكلما دقّ العدو كان عنيفاً فيحتاج احتياطاً أكبر. ونحن نعلم أن الميكروب الذي لا يُرى يأتي فيفتك بالناس، فالآفة التي تصيب الناس كلما لطفت، – أي دقت وصغرت – عنفت، فلو كانت ضخمة فمن الممكن أن يدفعها الإنسان قليلاً قليلاً، لكن عندما تصل إلى مرتبة من الدقة والصغر، هنا لا يستطيع الإنسان أن يدفعها. وأفتك الميكروبات هي التي تدِق لدرجة أن الأطباء يقولون عن بعض الأمراض: لا نعرف لها فيروساً؛ بمعنى أن هذا الفيروس المسبب للمرض صار دقيقاً جداً حتى عن معايير المجاهر.إذن فما الذي يجعلنا نضيق ذرعاً بأن نقدر أن هناك شرارة من ميكروب تخرج من كيماوية الإنسان الحاقد الحاسد الذي تشقيه النعمة عند غيره، وشرارة الميكروب هذه مثل أشعة الليزر تتجه لشيء فتفتك به!! ما المانع من هذا؟! إننا نفعل ذلك الآن ونسلط الأشعة على أي شيء، والأشعة هي من أفتك الأسلحة في زماننا، ولماذا لا نصدق أن كيماوية الحاسد عندما تهيج يتكون منها إشعاع يذهب إلى المحسود فيفتك به؟ ومثلها مثل أي نعمة ينعمها ربنا عليك، وبعد ذلك تستعملها في الضرر.ومثال ذلك الرجل الذي عنده بعض من المال؛ ومع ذلك يغلي حقداً على خصومه. فيشتري مسدساً أو بندقية ليقتلهم؛ إنه يأخذ النعمة ويجعلها وسائل انتقام، وهذا يأتي من هيجان الغريزة الداخلية المدبرة لانفعالات الإنسان.إذن فهؤلاء القوم عندما جاء رسول الله صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم مصدقاً بما عندهم، ما الذي منعهم أن يصدقوه؟ لا شك أنهم حسدوه في أن يأخذ هذه النعمة، ونظروا إلى نعمة الرسالة على أنها مزية للرسل، وهل كان ذلك صحيحا؟ حقا إنها مزية للرسل ولكنها مع ذلك عملية شاقة عليهم، والناس في كل الأمم – ما عدا الأنبياء – يورثون أولادهم ما لهم، أما الأنبياء فلا يورثون أولادهم.إنهم لا يأتوا ليأخذوا جاهاً، أو ليستعلوا على الناس، بل كلِّفوا بمتاعب جمة. إذن فأنتم تنظرون إلى السلطة التي أعطاكم الله إياها في مسألة علم الدين. وتجعلونها أداة للترف والرفاهية وللعنجهية والعظمة، وحين يجيء رسول صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم لكي ينفض عنكم ويخلصكم من هذه السيطرة، ماذا تفعلون؟ أنتم تحزنون؛ لأنكم أقمتم لأنفسكم سلطة زمنية ولم تجعلوا أنفسكم في خدمة القيم، وأخذتم عظمة السيطرة فقط، فلما جاء رسول الله صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم يريد أن يزيل عنكم هذه السيطرة قلتم: لا. لن نتبعه. فإذا كنتم تحسدون النبي صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم على الرسالة وجعلتموها مسألة يُدَلِّله الله بها أو أنها تعطية سيطرة، فلماذا الحسد على سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم وقد أعطى الله سيدنا إبراهيم صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم الملك، وأعطى لداود  علية السلام الملك، وأعطى لسليمان علية السلام  الملك، وأعطى ليوسف علية السلام الملك، فلماذا الحسد إذن عندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يكرم الفرع الثاني من سيدنا  إبراهيم  علية الصلاة والسلام وهو إسماعيل عليه السلام؟ لقد كرم الله سبحانه الفرع الأول في إسحاق وجاء من إسحاق يعقوب، ومن يعقوب يوسف، ثم جاء موسى وهارون ثم داود وسليمان، كل هؤلاء قد كرموا، وعندما يكرم سبحانه الفرع الثاني لإبراهيم وهو ذرية إسماعيل ويرسل منهم رسولاً، تحزنون وتقفون هذا الموقف؟ لماذا لا تنظرون إلى أن إسماعيل وفرعه أتى من ذرية إبراهيم، ولماذا اعتبرتم الرسالة والنبوة نعمة مدللة، ولم تنتبهوا إلى أنها عملية قاسية على الرسول صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم؟ لأن عليه أن يكون النموذج التطبيقي على نفسه وعلى آله، ولا أحد من أهله يتمتع بذلك بل العكس؛ فالنبي صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم يقول: ” إنا معشر الأنبياء لا نورث “. ويَحْرِم صلى الله علية وسلم وعلى اله وصحبة وسلم آل بيته من الزكاة. ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: ” إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس “.
وهكذا نرى أنه لم يكن يعمل لنفسه ولا لأولاده.

5-ويتابع الحق: { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } و ” الكتاب ” هو المنهج الذي ينزل من السماء، و ” الحكمة ” هي الكلام الذي يقوله الرسول مفسراً به منهج الله، ومع ذلك آتاهم الله الملك أيضاً. فسيدنا يوسف صار أميناً على خزائن الأرض، وأصبح عزيز مصر، وسيدنا داود، وسيدنا سليمان آتاهما الله الملك مع النبوة. إذن ففيه نبوة وفيه ملك، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعطاه ربنا النبوة ولم يعطه الملك فما وجه الحسد منكم له؟!. ثم ماذا كان موقفكم من أنبيائكم الذين أعطاهم الله النبوة والملك؟ يجيب الحق: { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ… }.

جزء تعليم القراءة والتلاوة

مد صلة : فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ 

إظهار:مُلْكًا عَظِيمًا 

مد منفصل:مَا آتَاهُمُ-آتَيْنَا آلَ

رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

الحمد الله رب العالميين حمدا كثيرا مباركا فية – اللهم دومها نعمة واحفظها من الزوال امين امين امين يا رب